أوهن من بيت العنكبوت نص قصصي قصير بقلم الروائي نور الدين بن صالح الزرفاوي
نص قصصي قصير
بقلم الروائي
نور الدين بن صالح الزرفاوي
تجمعت لديه السلط العريضة، فحاز الثروة الفاحشة ومعهما الجاه.. فدانت له الرقاب.. فكان "السيد" الآمر الناهي، الذي يقام له ولا يقعد.. الحاكم الحكيم المطاع في "مملكته الصغيرة"، رغم فساده، وسوء سمعته.. وفي البيت، كان " السي السيد" رغم عربدته ونزواته التي لا حدود لها.. كان ذلك في ما مضى من زمان.. أما الآن، وقد هلك عنه سلطانه، واختلت موازين القوة لديه، فها هو يبدو كليث عجوز استبدّ به الضعف والوهن، وأقعده العجز والمرض.. يزداد هزالة وضآلة مع مرور الأيام حتى صار مجرد كومة عظام.. لصيقا بكرسيه الكهربائي المتحرك، مشلول الأطراف لا يكاد يتحرك.. ثقيل اللسان لا يكاد يبين..
كان منزويا في ركن من أركان حديقة بيته الواسعة.. مكوما في كرسيه المتحرك.. جامدا كتمثال عتيق طاله النسيان، فعلاه غبار كثيف.. تمثال يرمز إلى الخيبة والبؤس والشقاء.. قبالته، حطُّ طائر أعزل أعلى شجرة تعرّت من أوراقها.. لم يعره أدنى اهتمام، فأشاح عنه بوجهه.. جال بنظرات بئيسة يعتصرها الألم وتنهشها الحسرة، يتفحص أرجاء الحديقة.. أشجار مثمرة من كل الأنواع ومن كل الأصناف غرسها ذات يوم بيديه هاتين اللتان أعلنتا - على حين غرة - حالة تمرد وعصيان.. تذكر كيف جعل من العناية بها أيام زمان هوايته ومتعته الخاصة حتى أصبحت يانعة تؤتي أكلها كل حين، وقد صارت الآن خاوية على عروشها.. وتلك الورود مختلفة الألوان والأشكال التي كانت تزين أطراف الحديقة في تناسق بديع من وحيه وإبداعه، وقد صارت غبارا تذروها الرياح.. أما المسبح أمامه مباشرة، فمجرد حوض تملؤه مياه آسنة مرتعا لشتى الحشرات.. فلطالما نعم ببرودة مياهه الصافية، والاسترخاء بجانبه ينعم بأشعة الشمس الدافئة.. وهذا البيت الكبير، آية في الروعة والجمال.. تصميم هندسي حديث يضاهي أجمل قصور البلد، إن لم يكن أجملها على الاطلاق.. لقد كان يعجُّ - في ما مضى من سنوات – بالذرية، وبالخدم والحشم.. وكان ملتقى للأصدقاء من النخب وعلية القوم، كما مقصدا للمتملقين والانتهازيين.. والآن قد ران عليه صمت كئيب.. لقد غذت أبوابه ونوافذه موصودة على الدوام، لا تطؤها قدم بشر، ولا يتسرب منها شعاع شمس.. وتلكم الصاحبة التي كانت ذات يوم لطيفة، خفيفة الظل، رشيقة القوام، وقد صارت إلى ما صارت إليه.. كرة من لحم وشحم.. صعبة المزاج.. حادة الطباع.. سليطة اللسان.. أما الأبناء فلقد شبوا، ثم ضربوا في أرجاء الأرض يبتغون الرزق وإتباث الذات، فقلَّت زياراتهم للبيت الكبير.. بل كادت تنعدم.. غير أنه عندما دعتهم الأم إلى ذلك الاجتماع الطاريء، هرعوا إليه من جهات الأرض الأربع.. اجتماع اكتسى طابع "سري للغاية" ترأسته هي شخصيا قصد اتخاذ قرار فوري وحاسم قبل فوات الأوان: " البيت الكبير، آخر ما تبقى من ثروة وجاه الأسرة، في مهب الريح!.. يبدو أن "السي السيد" قد خرج عن طوره!.. لا، بل لقد خرج فعلا عن طوره، فلم تعد لنزواته مكابح!.. لقد أصبح يعيث في ممتلكات وثروة الأسرة بيعا وتبذيرا.. الخمر والميسر قد نالا من جيبه.. وبكل تأكيد، فخرف الشيخوخة قد أفسد عليه وعيه وذاكرته.. إنه لم يعد يتمتع بكامل قواه العقلية والنفسية.. "السي السيد" لم يعد أهلا للثقة بعد اليوم!، والحجرعليه جائز!.. لا !.. لا، بل الحجر عليه حلال! "..
كانت تلك فتواهم.. وكان ذاك قرارهم.. ومن يومها احتضن الكرسيُّ المتحرك "السي السيد" عليلا، مخذولا، منبوذا، محجورا عليه !..
الطائر الأعزل قبالته فوق غصن الشجرة العارية ينفش ريشه.. هذه المرة تبث عليه نظره طويلا.. بدا له وكأنه قد جاء ليذكره بكآبة المنظر، وسوء المنقلب الذي انقلب إليه.. تحركت يده ثقيلة ترتعش، حتى إذا أصبح زر تشغيل الكرسي في المتناول ضغط عليه.. تحرك الكرسي في عزم وإصرار باتجاه حوض الماء الآسن.. وعندما حدث الارتطام العنيف بسطح الماء، رفرف الطائر البشع بجناحيه يحلق مبتعدا في السماء..
نورالدين بن صالح زرفاوي
23 شتنبر 2022
تعليقات
إرسال تعليق