سحر الرمال نورالدين بنصالح زرفاوي 16 نونبر 2022.
سحر الرمال
نورالدين بنصالح زرفاوي
16 نونبر 2022.
على الكثبان الرملية الممتدة أمامي إلى ما لا نهاية، تتسلّط أشعة الشمس المتوهّجة.. وعلى رأسي، وضعت قبعتي (المصنوعة من نبات الدوم) استعدادا للمغامرة.. من أجل هذه اللحظات عبرت المسافات البعيدة، واجتزت الجبال العالية متحدّيا منعرجاتها الخطرة.. وخضت أخيراً في الفيافي القاحلة الشاسعة، وها أنذا الآن أسير خلف الرجل أجرّ ساقيّ.. كان يرتدي جلبابا أبيض قصيرا حزمه في وسطه، ويلفّ حول رأسه لثاما أزرق تطل من خلاله عينان سوداوين علا بياضهما بعض الاحمرار.. ظل يتقدمني والمعول بيمينه، تغوص قدماه الحافيتان في الرمال المشتعلة.. في حين كنت أنا أكابد حرّها وهي تشوي باطن قدميَّ التي لم تعتد المشي حافية.. صبرت وصابرت، لكنني هُزمت في الأخير فانتعلت صندلي.. كنا نسير صامتين نصعد إحدى الكثبان الرملية المرتفعة.. لقد أبيت إلّا أن أتّخذ أعلى قمّتها شاهدا على التحدي!
وعندما انتهينا إلى قمّة التلّة، توقفنا للحظة متقابلين نستردّ أنفاسنا المتلاحقة.. هزَّ رأسه إلى أعلى يستطلع موقع الشمس من السماء.. ومن عُلٍ، مسحت أنا المكان بناظري.. امرأة اتخذت من ظل نخلة مأوى لها، عينُها على صبيّها.. حافيا شبه عار، يستجدي المارة صدقة.. وقافلة من الجمال يمتطيها سياح أجانب، سعداء آمنين، تضرب في عمق الصحراء.. ولسرعان ما غيبتها التلال الرملية التي تلمع بلون الذهب.. جهة المدينة، بيوت عتيقة بئيسة تتخللها أخرى حديثة البنيان.. وعلى أطرافها تنبت فنادق كالقصور، تعجُّ بالحركة، وتطفح برغد الحياة.. تتخلل ساحاتها العريضة، وتحفها أشجار نخيل دانية قطوفها.. ومدينة الأموات، هناك غير بعيد، تجري الرمال بين قبورها.. وعلى مدِّ البصر، وادٌ من الرمال.. هنا الرمال، كما الماء في بلدات أخرى، مصدر رزق وعيش بني البشر.. من دون هذه الكثبان الرملية الساحرة ما كانت لتتواجد هذه المدينة الفتيّة.. هكذا فكرت.. سألته متفلسفاً:" ماذا لو رحلت هذه الرمال، ونضب معين واديها"؟.. لم يحر جوابا، وكأن العجز قد عقل لسانه.. اكتفى بأن هزّ كتفيه، ثمّ شمّر على ساعديه المفتولين، وشهر معوله في وجه الرمال.. وانهمك يحفر حفرة مستطيلة..
وعندما انتهى، حدجني بنظرة ذات معنى.. الدور دوري.. الشمس ترسل أشعتها عمودية مشتعلة، وكأنها قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى من رأسي.. تجرّدت من ملابسي ، إلّا ما ستر منها عورتي.. الحفرة أمامي فاغرة فيها، وفيها انغمست طواعية تاركا وراء ظهري ما خوّلني ربّي.. " ترى ماذا قدّمت لحياتي"؟: كذلك ساءلت نفسي.. تلوت الشهادتين في سرّي، وأسلمت أمري لصاحب اللثام الأزرق..
شرع يردم عليَّ الرمال الساخنة بدءً من عند قدميّ، ثم فخضيَّ، فأعلى جسدي.. حرارتها تذغذغ مسامّ جلدي، فما لبثُّ أن استمرأتها وقد غطتني كلية إلَّا رأسي.. شئت أن أحدثه عن روعة الصحراء ونعومة رمالها، وعن السرّ الكامن في سحرها.. غير أن نسمات خفيفة هبّت على المكان، فكرَّتْ ذرّات الرمل تجري فوق وجهي.. زممت شفتيَّ وأغلقت عينيَّ، فأطبق الصمتُ وساد السوادُ... وغشيني نعاسٌ وسكينةٌ وطمأنينة.
نورالدين بنصالح زرفاوي
16 نونبر 2022.
تعليقات
إرسال تعليق