شعرية فن الرثاء / الكاتب مجدالدين سعودي- الدار البيضاء - المغرب
شعرية فن الرثاء
الكاتب مجدالدين سعودي.
الدار البيضاء - المغرب
01// استهلال :
الموت علينا حق. والحياة علينا حق.
لنتمعن فيما قاله تولوستوي: (الشخص الذي لديه فكرة خاطئة عن الحياة، ستكون لديه دوما فكرة خاطئة عن الموت.)
والموت منذ القديم وهو من القضايا الكبرى الغامضة التي لا نعرف كنهها، والبعض عندما يفقد عزيزا وقريبا تتعاطف معه، لكن أن يتحول البعض الى المرثيات لدرجة الابتذال والتكرار، آنذاك تصبح مرثياته مجرد كتابة تحت الطلب وبضاعة فاسدة لا محل لها من الاعراب.
لا بد من الإشارة الى أن العرب اختاروا الشعر للرثاء، فكان الشاعر لسان القبيلة يعبر هن مآسيها وتراجيدياتها بلسان فصيح وقوي، فيختار رمزا أو شخصية مهمة أو ضياع مدينة أو انهزام في حرب، ليرثي حالها. ولهذا فالبكاء على الميت الكبير وذكر إيجابياته وبطولاته واستعظام المصيبة بفقدانه، وإظهار الحزن والشجن بسبب فقدانه، من طرف الشاعر، هو ما أطلقت عليه العرب فن الرثاء.
يقول المفكر والمبدع مونتسكيو: (يجب أن لا نبكي على أصدقائنا، إنها رحمة أن نفقدهم بالموت ولا نفقدهم وهم أحياء ).
02// تعريف الرثاء :
الرثاء لغة هو صوت البكاء مع الكلام على الميت، أو صوت الكلام أثناء البكاء على الميت، ويقال رثى له أي رحمه ورقّ له، واصطلاحاً هو ذكر الميت وذكر محاسنه ومناقبه وخصاله الحميدة مثل: الكرم، والعفّة، والشجاعة، ووصف الحال بعد فقدانه، وما يحمله من مشاعر وحزن كبير اضافة الى وذكر ما يتركه فقد الميت في القلوب من حسرة وحزن وفزع.
03// الأصل في الرثاء :
تقول ايمان الحياري: (ويُصنّف الرّثاء على أنه أحدُ ضُروبِ الشعر العربي، وهو أكثرها عاطفةً؛ لأنّ منبعه هو القلب، فكلما زادت الصلة بين الشاعر والشخص الميت زادت قوة القصائد الرثائيّة، وقوّة وعمق المعاني، والعاطفة المتدفقة في أبيات القصيدة بشكل كبير، واشتُهر الرثاء عند العرب بشكل كبير؛ لما يحمله من تخليد للميت، وإبقاء ذكره على ألسن الناس كلما ذكروا ما كُتب فيه من قصائد ورثاء.1)
وهذا يعني أوتوماتيكيا وجود صلة قوية بين الشاعر والميت، ليكون شعره بالتالي قويا ودالا.
04// خصائص ومصداقية وعيوب الرثاء :
عن خصائص الرثاء يقول مازن النجار: (يعتمد الرثاء على مشاعر صادقة وأحاسيس معبّرة، فلا يمكن للشاعر أن ينتج قصيدة رثائيّة جيّدة إن كان المرثي ليس له علاقة مباشرة معه، فيجب أن يكون كلام الشاعر نابعاً من القلب حتى ينتظم معه الكلام والوزن الشعريّ بشكل جميل، يعطي للقصيدة رونقاً خاصّاً بها؛ كونها نُظمت لأجل رثاء شخص له علاقة مباشرة مع الشاعر...3)
ولهذا يكتب الشاعر قصيدته ليعبر عن أحزانه وآلامه إلى المستمع فيكون الشاعر واضحا غير متصنع أو مفتعل الحزن. فيثني عن الميت مبرزا خصاله وأفعاله ومنجزاته. فمضمون الرثاء هو رثاء الميت وليس كتابة موضوع انشائي يطغى فيه الانفعال والكذب والمبالغة.
وأهم ما يميز شعر الرثاء هو الصدق الكبير والتعبير السليم والعاطفة الصادقة، والإحساس بالألم بالحقيقي والحزن والتحسر على ألم الفراق والموت.
وتتجلى مصداقية شعر الرثاء فيما كتبه حنين عديل:
(يعتبر شعر الرثاء من أصفى وأعمق أنواع الشعر العاطفي، إذ إنّه يتناسب مع النفس الإنسانية، وذلك لأنّه يعبّر عن المشاعر التي يكنها الأديب في قلبه، فهي نابعة من القلب، كما أنّه كلما كانت صلة الشاعر بالميت كبيرة زادت قوة وصدق القصائد الرثائية. )2
لكن هناك عيوب تُضعف شعر الرثاء تتجلى في عدم ايفاء الميت حقه وعدم التطرق الى كل صفاته الإيجابية ومنجزاته، أو اضطرار الشاعر الى رثاء الميت مجاملة ونفاقا وتزلفا.
05// اتجاهات وأنواع الرثاء :
هناك مجموعة اتجاهات للرثاء منها الرثاء السياسي والاجتماعي والتاريخي والأسطوري وغيرهم.
ففي الرثاء السياسي ينشد محمد مهدي الجواهري، وهو يرثي الشهداء المتظاهرين الذين أطلقت الشرطة النار على عليهم في بغداد:
(أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ …. بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ
فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً …. وليس كآخَرَ يَسترحِمُ
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع …. أريقوا دماءَكُمُ تُطعَموا
أتعلَمُ أنَّ رِقابَ الطُغاة …. أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَمُ)
وهذا ما نجده في مرثية الشاعر أحمد فؤاد نجم وهو يرثي المناضل الأرجنتيني تشي غيفارا
(جيفارا مات ..
جيفارا مات ..
جيفارا مات
آخر خبر في الراديوهات
وفي الكنايس والجوامع
وفي الحواري والشوارع
وعالقهاوي وعالبارات
جيفارا مات..
عيني عليه ساعة القضا من غير رفاقة تودعه
يطلع أنينه للفضا يزعق ولا مِين يسمعه
عيني عليه .. عيني عليه
يمكن صرخ من الألم من لسعة النار في الحشا
يمكن ضحك أو ابتسم أو ارتعش أو انتشى
عيني عليه .. عيني عليه
يمكن لفظ آخر نفس كلمة وداع لأجل الجياع
يمكن وصية للي حاملين القضية بالصراع3)
والرثاء الاجتماعي هو ما رددته الخنساء في رثاء أخيها صخر:
( يذكرني طلوعُ الشمسِ صخرًا … وأذكره لكل غروب شمسِ! )
والرثاء التاريخي يتجلى مثلا في رثاء الأمم وزوال الدول وسقوط الهمم، ولنتمعن في قول أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس عقب سقوطها:
(لكل شيء إذا ما تمّ نقصانُ …. فلا يُغَرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هي الأيام كما شاهدتها دول …. من سَرّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ )
6 ألوان الرثاء
تقول ايمان الحياري:
(ويمكن التعبير عن الرثاء بثلاثة ألوان وهي:
النُدب: وهو البكاء أثناء احتضار الميت، أو بعد وفاته.
التأبين: وهو ذكر الميت وتعداد خصاله الحميدة في جمع من الناس، ويُعدّ التأبين نوعاً من التكريم للميت.
العَزاء: هو التفكير فيما وراء الموت، والتأمل في الموت والحياة بشكل يصل إلى أعماق فلسفتهما. ) 1
وهذا ما يؤكده حنين عادل قائلا:
(هناك ثلاثة ألوان لشعر الرثاء وهي: الندب: هو البكاء على الشخص أثناء احتضاره، أو بعد وفاته بالكلمات الحزينة التي تذيب القلوب والعيون. التأبين: هو البكاء على الميت مع ذكر محاسنه، والثناء عليه لكن دون نواح أو نشيج. العزاء: هو في منزلة عقلية أعلى من منزلة التأبين، وفيه تأمل فكري إلى ما وراء ظاهرة الموت، والتفكير في حقيقة الموت والحياة)2
06 // خاتمة :
لقد بدأنا القول بأن الموت حق علينا ، لأنه كما يقول المفكر إبراهيم الكوني: (الموت مارد لم يحترم الأوان يوماً، لأنه يأتي قبل أوانه دائماً حتى لو تأخر كثيراً.)
والدنيا لا تساوي شيئا أمام الموت، ولهذا يقول الحسن البصري: (ما ألزم عبد ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عنده.)
ونحن نقول للأوفياء بصوت عالي ما قاله غاندي: (في غمرة الموت تستمر الحياة.. في غمرة الكذب تستمر الحقيقة.. في غمرة الظلام يستمر الضوء)
اكتبوا عن الأحياء وقوموا بتكريمهم والانتباه لعطاءاتهم قبل فوات الأوان، واتركوا الأموات يرتاحون من نفاق ودجل البعض.
وكل رثاء وأنتم بألف صفاء ونقاء وبهاء.
07//احالات :
1 ايمان الحياري: تعريف الرثاء.
2 حنين عديل: ما هو شعر الرثاء؟
3 مازن النجار: مراثي العرب وتقاليد الرثاء والندب في المشرق العربي قديما وحديثا
تعليقات
إرسال تعليق