"حسناء"..!! -- نورالدين بنصالح زرفاوي -- فاس/25 أكتوبر 2022




 "حسناء"..!!

 

نورالدين بنصالح زرفاوي

فاس/25 أكتوبر 2022  

  

 

 كم هي حسناء وبهية تلك التي سُمّيت "حسناء"!.. هي الحسن والبهاء يخطر على وجه الأرض.. "حسناء"، هذه الوافدة الجديدة مع والديها العجوزين على البلدة النائية الغارقة في فقرها وبؤسها.. بذرة نقية لا تشوبها شائبة عصفت بها ريح هوجاء.. وهنالك كان المستقر وطال المقام.. فتاة، في ربيعها السادس بعد العشرة، تدفع عربتها الصغيرة محملة بجرّتين.. من الباب الشرقية للمدشر تشقُّ طريقها غربا نحو بئرالجيران لتسقي ماء.. تجتاز الحصن المنيع، درع القبيلة زمن السيبة والحروب الأهلية.. تمر بالمقبرة العتيقة حيث ابتلعت الأرض كل القبور، فلم تُبْقِ منها شاهدا غير قبة الولي الصالح الغارق في صمته الأبدي.. المنظر كئيب، فتجتاح الجسد الفتي قشعريرة عابرة.. وعلى القلب يجثم حزن ثقيل.. تهمس إحدى الزائرات وهي تتمسح بثابوت الولي الصالح طلبا للذرية، وقد أُخِذَتْ بحسن وجمال "حسناء": " لإن رزقت أنثى، لأسمينَّها حسناء ".

 

  تمضي "حسناء" في طريقها لا تبالي بشيء، تجتاز وسط المدشر.. شيخ مهيب يتوسط حلقة حديث عن التاريخ الغابر لهذه "المعلمة المنسية".. وعن القبائل الحليفة منها والمغيرة على القبيلة العتيدة أيام زمان.. وعن أصل وفصل الولي الصالح الذي يتوسط ضريحه فضاء المدشر.. يعرج أخيرا على بطولات شباب القبيلة في مقاومة الاستعمار الفرنسي الغاشم.." عبد الحيّ!.. لقد مات شهيدا!.. ذاك رجل لن يجود به الزمن ثانية!.. ذاك بطل بحق!".. هكذا تمتم حزِناً  أسِفا.. وعندما لمح "حسناء" تمر أمام باحة المسجد العتيق، كف فجأة عن الحديث.. حوقل.. استغفر الله كثيرا.. ثم قام يرفع آذان صلاة العصر، بعد أن لعن الشيطان الرجيم مرات عديدة..

 

 من داخل صالونه التقليدي البئيس، حلاق القبيلة الشاب يتلصص على "حسناء" يتابعها بنظرات العاشق الولهان، حتى لأنه كاد يقطّع أذن زبونه بمقصه الحادة.. البارحة انفجرت أمه في وجهه بعد أن فاتحها في موضوع زواجه من "حسناء": " حَسْنَا ؟؟!.. ويحك!.. ألا ترى أنها تختلف عن بنات البلد في كل شيء؟.. هنَّ يستيقظن باكرا، وهي لا تنفض عنها غبار النعاس إلا عند الظهيرة.. هن يحلبن البقرة، وهي تخاف البقر.. هن يركبن الحمير، وهي تشمئز من الحمار.. هنّ محتشمات يضربن بخمورهن على جيدهن، وهي تمشي في زينتها  تجتاز المدشر من شرقه إلى غربه تحت نظرات الرجال المتربصة.. يا للعار!.. حَسْنا هذه فتنة تمشي على الأرض!.. فتنة ابتليت بها كل البلاد والعباد "!.. ثم بعد صمت وجيز، وبحزم قاطع: " لا، لا يا ولدي.. حَسْنَا لن تصلح لك أبدا زوجة.. ذاك نوع من النسوان لن يصلح أن تتخذه أمّاً لأولادك"!..

         

  تغادر "حسناء" الباب الغربي للمدشر.. وفي الأفق البعيد، يطالعها سراب يجري كاللهب أعلى الحزام التلي الذي يطوق البلدة حدَّ الاختناق.. ومباشرة إلى أسفل، بيوت واطئة بئيسة متفرقة تحيطها جنان الصبار من كل جانب.. وهنا جنب البئر، شويهات عجفاء تستظلُّ تحت ظل شجرة "أوكاليبتيس"..  أدلت بدلوها في البئر..

           

   في تلك الأثناء، ركن الفتى إلى ظل السور السميك.. أسند إليه ظهره متعبا.. كان يلهث من الجهد، وجبينه ينضح عرقا.. لقد جاء راجلا من أقصى القرية تحت شمس يوليوز الحارقة.. جاء مصمما هذه المرة على لقاء "حسناء".. نعم، "حسناء" تستحقّ كل هذه المشقة والعناء.. بل تستحق التضحية بالغالي والنفيس.. فهل يا ترى تكن له نفس الإحساس والمشاعر؟.. وماذا؟.. فهل يوجد له غريم بين كل فتيان القبيلة؟:  نحيل في غير ضعف.. طموح بغير حدود.. ملحاح، والله يحب العبد الملحاح.. متعلم نابغ في دراسته، ومستقبل واعد ينتظره.. بل ينتظرهما معا.. هو و"حسناء".. وفوق هذا وذاك متحضر يواكب موضة العصر بشعره الكثيف المسترسل، وبلباسه الغريب على شاكلة "الهيبيز".. هكذا كان يفكر.. لكن ما لبث أن أثار انتباهه غبار كثيف قد علق بنعليه وأسفل سرواله ذي الكمين الواسعين، فأسرع ينفضه بكفه..

          

  "حسناء".. زينة الأسامي.. بهية الطلَّة.. تدفع عربتها الصغيرة، طالعة من بئر الجيران.. لرؤيتها ارتعش الفؤاد، وتدرّج الوجه حياء.. أسرع يسوي هندامه، ويرتِّب خصلات شعره المنفوش.. استجمع قواه ليبادرها بالسلام وبحسن الكلام.. كلام رومنسي معسول استلهمه من قصص المنفلوطي وجبران خليل جبران.. مفتاحه السحري لقلب "حسناء"..

            

   وينطق اللسان بداية بالتحية والسلام.. فيندلق الماء أرضا من الجرتين بعد أن توقفت العربة عن المسير.. لا، بل بعد أن تعثرت قدما "حسناء" وأبت السير.. تتورد وجنتاها، ويشرق ثغرها الباسم.. وعلى ملامحها تلوح أكثر من علامة رضى واستحسان..

                   تابعت طريقها تمشي على استحياء..

      

 وعندما حضرته قصة نبيّ الله موسى مع الفتاتين وأبيهما الشيخ، ابتسم في ارتياح، وقرَّر.. أن يسقي لها عصر الغد./.


تعليقات

في رحاب عالم الأدب..

سي محمد خرميز أيقونة من أيقونات المدينة الفوسفاطية.. بقلم عبد الرحيم هريوى الدار البيضاء اليوم/المغرب

عزيزة مهبي؛ المرأة الفوسفاطية بخريبكة ، العاشقة لمهنة التعليم على السياقة، وسط الكثير من الرجال..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

ماذا أصابك يا إعلامي زمانه و يا جمال ويا عزيز الصوت واللحن..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

العين التي أعطت ضربة الجزاء للفتح الرياضي بدون الرجوع للفار هي العين نفسها التي ألغتها بنفس القرار بعدما شوهد الفار- بقلم الكاتب الفوسفاطي /:عبد الرحيم هريوى

"السوليما" الإفريقية بخريبكة بين قوسين..!ومحمد درويش يقول على هذه الأرض ما يستحق الحياة..!! عبد الرحيم هريوى..!

كلمة عن بعد ؛ عبر العالم الافتراضي كمشاركة منا في حق تكريم أستاذ لغة الضاد الأخ مصطفى الإيمالي بالثانوية التأهيلية عبد الله بن ياسين بٱنزكان - عبد الرحيم هريوى

ياسين بونو توأم لبادو الزاكي حارس مايوركا في زمانه..!! بقلم عبد الرحيم هريوى