- بقلم الروائي :
نورالدين بنصالح زرفاوي
المغرب
- رقية / قصة قصيرة
" بقلم نورالدين بنصالح زرفاوي/ المغرب.
" عائشة".. قدماها لم تطئا لا مدرسة ولا كتَّاباً، لكنها معلّمتي بامتياز.. تنقش على ذاكرتي العذراء بأحرف من نار، فتخلّد عليها ذكريات من نور.. برحيلها المفاجئ، تغيّر كلُّ شيء بداخلي.. انقلبت المعاني في قاموس حياتي.. عالمي الشاسع سجن ضيق لا يتسع لأشجاني.. أمّا البيت الذي آواها، و"الكُتَّاب" إلى جواره، فمجرّد خراب مهجور.. أطلالٌ تذكّرني بمأساتي.. منزلنا جحيم.. والمدرسة جحيمٌ في جحيم..
من المدرسة خرجت راكضاً لا ألوي على شيء، وكأني أفرُّ من سجن.. تحسَّست جيوبي بكلتى يديَّ.. تماما كما تذكّرت: قطعة نقدية كانت قد أمدَّتني بها أمّي في أول الصباح لأشتريَ بها حمصاً يابساً، أو كسرة خبز محشوَّة بالقليل من "السّردين" المعلَّب أسدُّ به رمقي وقت الظهيرة..
متلهفاً، قصدت الدكّاني والنقود في يدي.. اشتريت قطعة علك، وبعض الحلوى.. دسسْتُ الكلّ في جيبي، وانطلقت أحثُّ الخطى إلى بيتنا، والأمل يهدهدُ خيالي: سألتقي "عائشة" في ذات المساء، ثم أناولها هديتي البسيطة.. ثم!... ثم!... ثم ماذا بعد؟؟..ماذا بعد؟!..ماذا بعد؟!.. آه!.. نعم!.. أمّا بعد، فسيكون لها وحدها واسع النظر في القضيّة.. القضيّة قضيتي وحدي، ولكن مصيرها بيدي "عائشة" وحدها.. وحدها "عائشة" تستطيع أن تحييَ قلبي الفتيّ النابض بعشقها النقيّ، أو تميته شرَّ ميتة..
وحدي، كنت أمشي في الطريق عندما رأيت سيّارة سوداءَ اللون تقبل في الاتجاه المعاكس.. ضجيج محرّكها يزداد قوة وعنفواناً كلما اقتربت مني.. توقفتُ عند حافة القنطرة الإسمنتية التي تعبر من تحتها قناة صرف مياه غسل المعدن.. أسندْت ظهري إلى قضبانها الحديدية الصدئة، أمعنُ النظر بادئَ ذي بدء أتفحّص السيارة، لأركّزه فيما بعد ، على الوجوه الآدمية التي تقبع بداخلها.. إلى الأمام، يجلس السائق وبجواره رجل آخر.. كانا في منتهى الأناقة. وفي المقاعد الخلفية، جلست امرأتان تتوسطهما فتاة، يكاد جسمها النحيل يغيب وسط الجثتين السمينتين.. وجه مألوف لديّ ومحبوب.. بل هو ضالّتي ومناي.. توالت دقّات قلبي عنيفة متسارعة. اخترقتني نظراتها.. متردّدة، حائرة، زائغة، وحزينة.. "ترى إلى هي ذاهبة الآن؟ "... "ترى من هم هؤلاء الأغراب؟ "...
تسمّرتْ قدمايَ في مكاني، وكأنّ الأرض قد شدّتني إليها شداً.. وتوقفت السيارة حين اجتازت القنطرة بقليل، وكأنّ نظراتي المكلومة قد كبّلتها تكبيلاً.. ستنزل!.. حتما ستنزل لتودّعني وداعاً قد لا يكون بعده لقاء..
وها هو الباب يفتح أخيراً !.. ولكنّه الباب الأمامي من جهة السائق.. وترجّل الرجل.. ولبث واقفاً لبعض الوقت يستكشف المكان، وهو يجول ببصره ذات اليمين وذات الشّمال. وأخيرا تحرّك نحو شجرة "أوكاليبتوس" على قارعة الطريق، أسند كتفه إليها... وشرع يتبوّل.
جرى بصري ثانية نحو السّيارة الجاثمة هناك كغراب بشع.. "عائشة" دائما حبيسة الجثتين السمينتين.. من وراء زجاج النافذة، اختلستْ إليّ نظرة خاطفة .. وعلى استحياء، لوّحت لي بيدها مودّعة.. لم أستطع أن أردّ عليها بالمثل.. ذراعي قد شلّت، فكأنها ليست منّي.. في نفسي الثكلى الجريحة، ودّعتها الوداع الأخير..
لبثُّ مكاني أشيّع السيارة اللّعينة، التي انطلقت تثير زوابع الغبار من خلفها، فتحجب قرص الشمس الذي كان يذوب في الأفق البعيد.. حُمرته قاتمة كدماء نجمت عن معركة ضارية، فتجلّطت في ذلك الركن القصيّ من قبة السماء.. وجدتُني أنظر إلى المياه المنسابة في القناة تحت قدميَّ.. حمراء لزجة كالدّم.. كدمي الفائر في عروقي، وقد تسرَّب من جرحي الغائر، الذي ظللت أحمله بين جوانحي أياماً وليالي.. أخرجتُ هديّتي من جيبي .. من وراء غشاوة الدموع تأملتها هنيهة من الزّمن.. قبل أن تنزلق من بين أصابعي، فتجرفها مياه القناة..
جسمي يلتهب من الحمّى.. رأسي يوجعني .. يكاد ينفجر من الألم.. قلبي يخفق ببطء شديد.. يكاد يتوقف عن الخفقان.. الأفواه من حولي تلتهم الأكل بشهيّة، وأنا أنظر إليهم وإلى الطعام من دون أدنى شهية.. تأمرني أمّي وهي تمدُّني بلقمة: -هيّا كلْ.. -ما أنا بآكل..
تحثّني ثانية:
-ويحك!.. ستموت من الجوع، لقد شحُب لون وجهك... - أردّ عليها بعصبيّة: - إليك عنّي أمّي.. ما أنا بآكل.. - تلحُّ عليّ بحنوّ فائق: - سأسلق لك بيضة أو بيضتين..
لم أشأ أن أعقّب.. اضطجعْت كلّية في الفراش، وأسدلت اللّحاف على رأسي المحموم.. ثم استسلمت لنوم حافل بالكوابيس المريعة.. أفقت في قلب الليل، فوجدتني أتصبّب عرقا.. أكاد أموت من العطش.. الكلمات تغوص في حلقي.. أكاد أختنق.. أصرخ، وأصرخ.. استيقظت أمّي على صراخي، وأيقظتْ كلّ من بالدّار .. هرع أبي إلى "الفقيه" يتعثَّر في الظلام.. وبعد غفوة منّي، وجدتني محاطاً بهم جميعهم.. وجوه مستطيلة يغشاها ضباب، ملامحها لا تستقرُّ على حال..
"الفقيه" يشدُّ على جبيني المحموم بيده الثقيلة وهو يتمتم بصوت منخفض يمضغ الكلمات مضغاً، فيصلني صداه متصلا كالنُّواح.. وأخيرا تفوّه طويلا، ثم قال بصوت يشوبه النعاس والفتور: -
- لقد أصابه مسٌّ من الشيطان!!..
أفرجتُ شفتيَّ لأجيب: " لا.. بل أنت الذي أصبتني في الصميم.. أنت الشيطان.. أنت أكبر الشياطين.. أنت أصل الداء.. لا، بل أنت الداء.. أنت طاغية.. سفاك الدماء البريئة بغير حقّ.. وإلاَّ، لمَ أرسلت ابنتك إلى المدينة؟.. لمَ أرسلتها لتشتغل كخادمة لدى أولئك الأغراب؟.. لمَ أبعدْت "عائشة" عنّي؟.. لمَ أبعدْتنا عن بعضيْنا؟ ".. لكنّ لساني لم يطاوعني.. مجرّد كتلة لحم تملأ فمي.. لا فاعلية لها تماماً ... وأخيراً، أخذ يدي، ثم انطلق يكتبُ في باطن كفّي، وهو يتمتم بكلمات لم أتبيَّنها..
10/11/2021
تعليقات
إرسال تعليق