رجاءً، لا تضع كلّ البيض في سلّة واحدة.. نورالدين بن صالح زرفاوي خريبكة 13 يناير 2023
رجاءً، لا تضع كلّ البيض في سلّة واحدة..
نورالدين بن صالح زرفاوي
خريبكة 13 يناير 2023
حكى لي صديق، كانت قد فرقت بيني وبينه السبل لعقدين من الزمن أو ما يزيد، فقال:
" لليالي متتالية ظلَّ رأسي يغلي، لا يفتر لحظة.. كبركان، يكاد ينفجر.. شتّى الأفكار تتزاحم فيه وتتدافع.. لا أدري أخيرٌ يُراد بي أم شرّ.. لا، بل خير.. هو الخير كلّه.. فكرة تزن ذهبا تمخّضت عنها عبقريتي الفذّة أخيراً.. أنا الشاب الطموح.. الموهوب.. المغامر.. الموظف بإدارة جحود.. آه!.. كم كنت مغبونا وأنا أحسب نفسي أحسن فيها صنعا.. إدارةٌ، الأفق فيها مسدود.. لا تؤمن بالابداع، ولا تقدّر المهارات.. وظيفتي بها كرهتها حتى النخاع.. ماذا لو انطلقت في مشروع خاص؟.. هكذا فكّرت!.. ولكن كيف السبيل؟.. بهذا تساءلت!.. طواعية، غادرت وظيفتي العجفاء.. مبالغ مهمّة استدنتها من المعارف والأصدقاء.. وأخرى من مدَّخراتي ومستحقات مغادرتي الطوعية لوظيفتي.. الكل خصصته لتحقيق حلمي ؟.. مخدع هاتفي في شارع كبير بقلب المدينة النابض بالحركة والحياة.. تغمرني سعادة لا توصف، وأنا أنظر بأمّ عيني إلى فرص شغل شريف أحدثُّها.. ويفيض قلبي فرحا وسرورا، وأنا أتأمل طابور الزبائن الطويل أمام محلّ مشروعي العتيد.. أستمتع برنين الدريهمات الفضّية وهي تنزلق في جوف الصناديق الهاتفية من أول الصباح حتى آخر الليل.. وسّعتُ نشاطي، فازدادت أرباحي.. وأصبحت أعدُّ نفسي من رجال الأعمال الأخيار بالبلد.. اتّسعتْ أحلامي بعرض السماء والأرض "..
إلى الأرض أطرق طويلا.. ازدرد ريقه.. أمعنت فيه النظر.. لم يعد ذاك الشاب الأنيق.. الممتليء حيوية ونشاطا كما عهدته سنوات مضت.. ضاع معظم شعر رأسه، ولحيته واخطها الشيب.. بيد معروقة ترتعش، أشعل سيجارته الرخيصة.. شرب معظم دخانها، ونفث القليل المتبقّي منه في الفراغ.. ثم استتلى قائلا بنبرة حزينة
" زُلزِلت الأرض تحت قدميّ، وقد بزغ فجر الجوَّال اللعين مُؤذِنا بأوان ساعتي.. وكم كانت عظيمة زلزلة ساعتي.. لقد مُنِيَ مشروعي بالإفلاس.. وماذا بعد الإفلاس غير الخيبة والإحباط؟.. ماذا بعد الإفلاس غير الفقر، والتشردم، والضياع ؟.. أعيش طريدا شريدا.. أتفادى الأصدقاء والأحباب.. أسير متخفيّا جنب الحائط، أحسب كل صيحة عليَّ.. أغادر البيت مع بزوغ ضوء النهار، ولا أعود إليه إلاَّ متسلِّلا كقطٍّ مذعور بعد أن يحلَّ ظلام الليل، ويطفيء آخر مقهى بالمدينة أضواءه.. أغيّر سكناي أكثر ممّا أغيّر ثيابي..على أطراف المدينة.. في حيٍّ بئيس تسكنه بائعات الهوى، والنشّالون، وأصحاب السوابق بيتي العتيق موجود.. تنخر الرطوبة أركانه.. يعْمهُ في ظلام مستمر..وشبح الإفراغ قائم لا محالة، فأنا مدين بسومة كراء أشهر عديدة "..
بعصبية حطّم عقب سيجارته الكريهة بين أنامله.. هزَّ رأسه، ونظر مباشرة في عينيَّ.. ثم قال بصوت أسيف:
" ما كان عليّ أن أضع كلّ البيض في سلّة واحدة " !!
انتابته نوبة سعال متواصل وحادّ، أجبرته على التوقّف عن الحكي..
تعليقات
إرسال تعليق