هنا أبي الجعد.. بقلم الشاعر محمد السعداني
هنا أبي الجعد..!!
تلفحني نسائم أغسطس المشربة برطوبة خفيفة، توقظ في ذاكرتي المتعبة حنين سِنِيٍّ خلت مرت كلمح البصر ، وتركت وشمها غائرا على تفاصيل الجسد و الروح ..
هنا أبي الجعد، موئلي الأول حيث راود القدر شهوة أبي الطاعن في الغياب، و آثر أن يهبني الحياة لأخرج من صلب الرغبة وترائب الهوى، تسبقني ضحكة و تتعقبني صرخة، وتترصدني في المنتصف نوائب الدهر وعاديات الزمان..
هنا أبي الجعد، أعود إليها محملا بشغف طفولة هجرتها ولم تهجرني، وكنت أظن أني تركتها خلفي، فإذا بها تنبعث أمامي رافضة لغة المحو و منطق الاندحار...
هنا أبي الجعد، أدلف بين شوارع المدينة الصغيرة، و أحظى بتأشيرة عبور لأناي التي ضيعتها بين دروب الهروب الكثيرة، باحثا عن ذات غارقة في الجنون، تبتعد لتقترب، تكبر لتصغر ، وتحب لتموت.. ذاتً ساحت مثل الريح في أصقاع قلوب لا تجيد لغة الحب و لا تعترف بهبة الوصل، فضاعت في مهب البحث و تعثرت في سراديب الخيبات ..
هنا أبي الجعد، صوت مئذنة مسجد الزكراوي، يدعوني لصلاة بحرمه، أغتسل من غيابي وأؤم شطر الوفاء، لأصل ماضي بحاضري و أجدد البيعة لأرض خرجت منها طفلا حالما وعدت إليها بمفرق أبيض يتلو سور الكهولة قبل أوان الخريف..
هنا أبي الجعد، تستقبلني دروبه الرطبة، وتعانقتي حدائقه المعشوشبة بعتاب خفيف ولوم شفيف: ما ظننا أن ينسى العاشق موطنه يا محمد، وما حسبنا المسافات أول خطوات الكفران، فأين أنت من الطفل الذي كنتَه؟
أطرق طويلا، وأمشي الهوينى وحيدا بلا هدى..يستدرجني شارع درب لالة ميمونة الطويل، على جنباته أسترجع شغبي الصغير مع باعة فواكه التين و الصبار، مع النساء اللائي كن يبعن اللبن والسمن البلدي..أحدق طويلا بالوجوه والأمكنة، أسمع حسيسها وهي تشير لي بريبة و عتاب فأهرب من وشوشاتها دون أن أنبس ببنت شفة. أخذت أنفاسي على كرسي بالحديقة التي شيدت على أنقاض المقبرة المجاورة لدار الشباب..يااااه كم كان مهيبا هذا المكان، وكم سكنتني في صغري الرهبة وأنا أمر بمحاداته..هكذا بكل بساطة على أنقاض الرفات تنبت أزهار وشجيرات.. يخيل إلى أن كل غصن في هذه الحديقة تسكنه روح من الارواح التي انبجست من جوفها، و يتهادي إلى سمعي حوارها المطلسم فأسحب نفسي من أتون الافكار بتنهيدة و أطلق ساقي للطريق..
في منحدر المستشفى القديم تغيرت المعالم بعض الشيء. النصب الذي يحمل اسم المدينة أضفى على مفترق الطرق طابعا جماليا فريدا. على اليسار "مسجد الجزارة" العتيق الذي تحتضن صومعته لقلاقا طلب اللجوء منذ القدم، فنسج عشه عاليا ومنح لنفسه صلاحية تدوين التاريخ بمنقاره على الهواء، لذلك فهو وحده يحفظ سر الحكاية من ألفها إلى يائها.
في شارع محمد الخامس، المطل على أقواس درب غزاونة والمحطة القديمة، وجدتني أقف على أطلال كرسي، وأمرر كفي على عيدانه التي أكل منها جوع الصيف والشتاء وكأني أتبرك بولي، أو أتمسح بشاهد أحد الصالحين..هذا الكرسي المقابل لمحطة الحافلات القديمة قضيت معه قرابة عشر سنوات أنتظر أختي التي تخطفتها يد الموت وكان عقلي الباطن يرفض رفضا باتا أنها ماتت، لذا كنت أنتظرها كل يوم في المحطة، وأقف علي باب كل حافلة وافدة أنتظر نزولها دون جدوى..وحين استبد بي الانتظار هاجرت مرغما إلى حيث البعيد و ما زال في نفسي أمل أن تعود رغم يقيني أن الموتى لا يعودون ..
قبل أن ألج أزقة درب غزاونة الضيقة أعرج إلى الزاوية الشرقاوية، و أوقض الصوفي الذي مات بداخلي ليؤدي ورد الوفاء ويبتهل بأناشيد القرب لعارف عرفته ولم يعرفني، قصدته ولم ينصفني..أحببته وترك قلبي على هامش النسيان..الحوانيت القديمة؛ العطارون، البقالون ، باعة القماش و أصحاب الأكلات السريعة .. كل شيء ما زال على عهده لكننا تغيرنا وربما نسينا أو تناسينا و شاخت بنا سبل التذكر فما عدنا نستبين..
درب سبع قنوت، هنا بدأت حكاية عشقي الأول، هنا اشتعل فتيل حبي الطفولي لفتاة كنت أعكف بصمت على أعتاب بابها لأحظى بنظرة صامتة لكنها كانت تقول كل شيء... فتاة بادلتني الحب ودون سابق إنذار اختفت إلى الآن .. ترى هل ما زالت شرارة الحب الاول في قلبها كما في قلبي،هل نسيت أم أن الذكرى توقظ بداخلها رغبات الوصل كما تفعل بي الآن؟؟؟
رغم كل هذا الانتماء المتجدر، أحسني غريبا عني وعن المكان. لكني يقينا أدرك أني كبرت ...كبرت بالقدر الذي جعلني أبدو متحجرا أمام كل ما يدور حولي..كبرت بالقدر الذي أنضجني فصارت أبواب الرحيل مفتوحة في وجه كل من أراد الهجران، كبرت حتى صارت دمعتي في حرز آمن من السقوط من أجل العابرين الذين يلبسون أقنعة الود.. كبرت لدرجة أن وحدتي غدت مقدسة، و صمتي صار رفيقي الذي يسندني عندما تخونني ملكة الكلام..
هنا أبي الجعد....10/08/2022
الشاعر محمد السعداني
أستاذي الجليل هل ممكن تقاسم نصكم الممتاز هذا في صفحة خاصة بمدينتكم ابي جعد
ردحذف