رحلة النورس .. 10 .. قصة قصيرة بقلم الكاتب عبد السلام كشتير




 رحلة النورس .. 10 ..!!

قصة قصيرة

بقلم الكاتب :

عبد السلام كشتير 




لم تكن قسوة الأيام التي عاشتها لحدود لحظاتها هذه تقاس بقوة التعب الذي تتكبده في عملها ، أو مسؤوليتها في وظيفتها الجديدة أو ما تجترحه في معيشها اليومي ، بل بقسوة إحساسها بالغربة وحياة الوحدة التي باتت تلازمها كشعور دائم رغم وجودها مع عائلتها ، أو قُل مع ما بقي منها .. هذا الإحساس بالغربة يزداد ويتقوى حينما تُشيٌع يومها ، وحين تختفي شمسه خلف الأفق وهي تراقب أفول وانطفاء ٱخر خيط من خيوط أشعتها ، معلنة انقضاء يوم ٱخر من أيام عمرها الكئيب .. فتجثم العتمة على كل شيء حولها ، بدءا من شرفتها التي تنعزل فيها ، وفي أركان شارع حيها الوارف الذي ينقلب لونه رغم ضوء أعمدة الإنارة المتبتة على طول جنباته إلى اللون الأسود .. تتسلل أجنحة هذه العتمة إلى نفسيتها أيضا لتكتسحها وتهيمن عليها وعلى أفكارها . فيتثاقل إثرها خطو الزمن ، زمنها ، حتى أنها ومن شدة تباطئه تحس ، بل تؤمن ، دون أن يخالجها أدنى شك ، أن دمها هو الٱخر يجري في عروقها بنفس الوتيرة التي يسير بها زمنها ، فينتهي باردا إلى أطراف أصابعها ، فتصير جامدة من فرط اعتقادها بفكرة بطء الحركة في كل شيء داخل دائرة محيطها .. متى اجتاحتها هذه الأفكار المتشابكة المداخل وغير واضحة المخارج ، العصية على الفهم ، تشتعل ذاكرتها تأججا بالشوق إلى تلك الأماني والخواطر التي ترتق بها ما انفطر من أيامها المتخنة بكل أصناف الملل والرتابة والمعاناة ، والخوف من الٱتي الذي تظل ملامحة مبهمة كسديم ضباب تبدده أولى خيوط أشعة الشمس الصباحية .. فتنزع روحها صوب ذكرياتها الطفولية ، والقريبة وما اجترحته في أحضان أسرتها ولها ، وما علق بذهنها من اضطلاعها بمسؤولية رب الأسرة بعد الغياب المفاجئ والأبدي لوالدها .. فلا تنفك تنبش فيها بحثا عن شيء ما يخلصها من ورطتها الدائمة .. ويفتح أمام أعينها أبواب الأمل نحو مرافئ ٱمنة ، وامتطاء مركبة الحياة السائرة بسرعة جنونية مقارنة مع زمنها هي ... فينتابها الشعور بالغربة والوحدة من جديد ، ويستولي عليها ويستأسد على عقلها ، فتنساق لطغيانه واستبداده بهواجسها وخيالها ، فيتضاعف هذا الإحساس الذي بات يلازمها بشكل غريب ، ويصعب مع كل هذا الزخم العارم من التشاؤم ، الرجوع إلى حالتها العادية ..
لقد أشرفت على سن الأربعين ، وبدأت تعيش ٱثار هذا السن الذي من المفروض أن يفتح أمامها أبواب الحياة على مصراعيها ، لما وصلت إليه من نضج وارتقاء في تفكيرها ومشاريعها ووظيفتها .. لكنها تشعر أنها تعيشه مختلفا فارغا من كل ما يلون ساعاته وأيامه وشهوره ... عادة ما تفسر حالتها النفسية هذه بانفراط عقد العائلة وارتباط كل فرد بما تمليه حياته الخاصة .. وتلاشي خيوط التواصل .. لقد تغيرت الأحوال الإجتماعية للأسر والعائلات وتبدلت تبعا لتعقد وسائل وأنماط الحياة ، وسيادة سلوكات فردانية إلى حد الإنطواء .. فاندثرت بعض العوائد وزالت لتعوض بسلوكات جديدة طفت على سطح العلاقات عادة ما ارتبطت بالهيمنة الرقمية على كل مناحي حياة الإنسان ..
هكذا تحاول أن تجد تفسيرا لما يحيط بها وماتراه يلائم منظورها للعلاقات العائلية والإجتماعية عموما .. وهي تتأمل الشارع الممتد حتى البحر وأدخنة الضباب تلف مصابيح الإنارة العمومية كما لو أنها تتصارع معها لتحرم الكائنات الليلية من النور ، وتغرقها في الظلام الدامس .
كسرت أصوات وأهازيج إحتفالية ، هدوءها وسكونها الذي غاصت في متاهاته إثر الحوار الذي دار بينها وبين والدتها ، في المقهى قبل سويعات من الٱن ، عن الحياة والبحر وبرودة أصابعها ، واللازمة التي لا تفتأ ترددها أمها كلما سنحت لها الفرصة ، كما لو أن قضية الزواج اختيارية ومتحكم فيها .. يؤلمها كثيرا هذا الأمر ، كونها لم تلمس أية إشارات أو علامات بإمكانية حدوثه .. ودت بينها وبين نفسها لو أنها تسمع كلام غزل من شخص ما ، رجل يجاورها في المقهى ، أو شاب يلمحها وهي في طريقها إلى بيتها ويهمس لها بعبارات غزل ترهف إثرها سمعها لها ، أو يرسل لها ابتسامة كتعبير عن استحسان ملامحها وجمال محياها .. أو حتى تحرشا بها كما باقي البنات .. فيكون لها رصيد من كلام الإعجاب الذي يُلقي به الشباب على مسامع الفتيات عادة ، على الأقل كما تسمع من الحكايات المختلفة التي تروى على لسان صديقاتها ..
هل هي مختلفة عنهن ! أم أنها لا تثير الجنس الٱخر ولا تلفت نظره إليها ! هل من مشكلة .. فيها ، معها .. ؟
تتيه في شبكة التساؤلات المعقدة حول هذا الموضوع الذي أصبح يطرح أمامها همسا وإشارات ومعاني وتأويلا ..
يستمر الهرج المختلط بالغناء والضحك وصياح الأطفال ، وأصوات ضرب الدفوف والزغاريد المنبعث من منزل جيرانها ، فيقطع هذا الصخب حبل ذكرياتها التي تشوش عليها دوما هدوءها ، وتنغص عليها متعة النوم والراحة والإسترخاء .. أرجأت على إثره حصة استرجاع صور ماضيها المؤلمة إلى حين .. فتبدلت حالتها وانقلبت مائة وثمانون درجة .. فتحت عيناها أكثر وتحركت في مجلسها ، ثم وقفت وخطت بضع خطوات متوجة إلى شرفتها حتى تتمكن من الاطلاع على مكان الأهازيج الصاخبة التي تصل إلى غرفتها ، وتتبين ربما دواعيها ..
وقفت بالشرفة تنظر نحو الجهة التي تتناها منها الأصوات .. في الوقت الذي التحقت بها والدتها مدفوعة هي الأخرى بفضول جامح لتقصي الأخبار عن مصدر هذه الأصوات ودوافعها ..
- هادشي فدار الحاج مبروك ؟
- نعم أمي كما ترين ..
- هي لطيفة حن عليها الله .. مانكونو معاك ابنيتي؟
- إن شاء الله ..
- امتى يجي داك النهار ونفرحو بيك حتى حنا .. !
تم صمتت ولم تضف أية كلمة لما قالت لابنتها في حوارها معها ، فاستمرت تبحث عن مكان في الشرفة يجعلها على صلة بما يقع عند الجيران ..
استشعرت البنت قيمة الحوار ، ووزنت ما تلفظت به أمها لتبلغ مباشرة إلى مايدور في خلدها .. لقد صارت تقرأ أفكار أمها ونظراتها وحركات ملامحها دونما حاجة إلى تفسير وتأويل .. أو إلى تساؤل ..
تمسكت أمها جيدا بالجزء العلوي من الحاجز الحديدي للشرفة ، ومدت رأسها قليلا إلى الأمام حتى تستوعب جيدا ما ترى ، وتحيط علما بما يجري ولو بالنظر فقط .. فالحاج مبروك من جيرانهم القدامى ، يتعاملون معه في كل مناحي حياتهم . يشاركهم ، كما يشاركونه في مناسبات الفرح التي تحل عليه ، ومن جهتهم لا ينسنوه كباقي الجيران كلما حلت بهم ، هم أيضا ، أفراحا .. فيكون من أول المدعويين ..
- جاو عندهم الناس بزاف .. !
- لم تخبرني جارتي بالحدث .. !
- ألأننا لم نلتق منذ مدة ليست بالهينة .. ؟
- ربما أرادوا أن يكون الحفل بسيطا يقتصر على دائرة العائلة القريبة فقط .. إنه شأنهم ، وهم أحرارا في اختياراتهم ..
ترد البنت عل أمها دون ان تغادر ببصرها باب بيت جارهم مبروك ..



تعليقات

في رحاب عالم الأدب..

سي محمد خرميز أيقونة من أيقونات المدينة الفوسفاطية.. بقلم عبد الرحيم هريوى الدار البيضاء اليوم/المغرب

عزيزة مهبي؛ المرأة الفوسفاطية بخريبكة ، العاشقة لمهنة التعليم على السياقة، وسط الكثير من الرجال..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

ماذا أصابك يا إعلامي زمانه و يا جمال ويا عزيز الصوت واللحن..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

العين التي أعطت ضربة الجزاء للفتح الرياضي بدون الرجوع للفار هي العين نفسها التي ألغتها بنفس القرار بعدما شوهد الفار- بقلم الكاتب الفوسفاطي /:عبد الرحيم هريوى

"السوليما" الإفريقية بخريبكة بين قوسين..!ومحمد درويش يقول على هذه الأرض ما يستحق الحياة..!! عبد الرحيم هريوى..!

كلمة عن بعد ؛ عبر العالم الافتراضي كمشاركة منا في حق تكريم أستاذ لغة الضاد الأخ مصطفى الإيمالي بالثانوية التأهيلية عبد الله بن ياسين بٱنزكان - عبد الرحيم هريوى

ياسين بونو توأم لبادو الزاكي حارس مايوركا في زمانه..!! بقلم عبد الرحيم هريوى