الحارس الليلي..قصة قصيرة/نورالدين بن صالح الزرفاوي /خريبكة اليوم/ المغرب

                                        

كاتب سعادته التي ينشدها في إبداع أدبي ينشره عبر السوشيال ميديا كي يزيح غبار
الروتيني على عيون العابرين عبر النصوص.نرفع له قبعتنا الأدبية وبكل فخر لا حد له وباعتزاز لابن البلدة جماعة المفاسيس التي تعيش على كنز من كنوز الأرض
تدوينة في حق الكاتب
بقلم

ع*.الرحيم هريوى

الحارس الليلي..

قصة قصيرة

أركن دراجتي العادية القديمة إلى قائمة العامود الكهربائي.. ثم أربطها إليه بسلسلة من حديد وأنا أستحضر الحديث النبوي الشريف "أعقلها وتوكل".. يستقبلني "بوب"، كلبي ورفيقي في العمل، وهو يتمسح بساقي.. من كيس بلاستيكي، أفرغ في إنائه ما تمكنت من جمعه من فضلات الطعام من المطاعم الشعبية.. شأني في ذلك كل أمسية. أتأمله لبعض الوقت وهو منهمك في التهام الأكل بشراهة.. أفتح قفل الباب الخشبي المتهالك، وألج "مأواي" منحنيا حتى لا يصطدم رأسي بعارضة السطح الواطئ.. أتخلص من حقيبة الظهر المهترئة، ثم أجلس هنيهة على الكرسي الأعرج لأسترد أنفاسي وأستريح من عناء الطريق .. أنا الكهل الهرم، أقراني ينعمون الآن بأسرة، وببيت يعج بالأبناء والأحفاد، وبمعاش شهري .. أتفقد جاكيطتي المرصعة بطلاء يعكس الضوء ليلا كنت قد علقتها، كعادتي كل صباح عندما أنتهي من العمل، إلى مسمار على الجدار الخشبي.. ألبسها وأتسلح بمصباحي اليدوي وبعصاي.. رفيقاي، وكلبي "بوب" في سهدي وسهري طول الليل.. تضيء المصابيح العمومية شاحبة لا تكاد تضيء ما حولها.. يصدح المؤذن من بعيد بالآذان لصلاة المغرب، معلنا أيضا وقت شروعي في العمل.. أتوكل على الله، وأبدأ أجوب الزقاق الممتد بين الفيلات الأنيقة ذهابا وإيابا.. أريج أزهار شجر الليمون يفوح من حدائقها، فيملأ خياشيمي ورئتي.. سكون لذيذ يطبق على هذا الحي الراقي الذي يسكنه علية القوم بمدينتنا..
ينقضي الهزيع الأول من الليل أو يكاد.. وأنا لا أزال أتمشى و"بوب" طول الزقاق جيئة وذهابا.. يومض ضوء برتقالي أعلى باب إحدى الفيلات، منبها باقتراب مالكها.. سيارته تمسح الظلام بأضوائها الكاشفة.. أنبري أنا إلى أقصى الرصيف، وألبث واقفا هناك.. تبدأ الدفتان الحديديتان بالانفراج أوتوماتيكيا وببطء.. تخفض السيارة من سرعتها.. تكاد تتوقف كلية، حتى إذا انفرجت دفتا الباب بالكامل، ولجت إلى الداخل مولية لي مؤخرتها المرصعة بالأضواء الحمراء اللامعة.. أوتوماتيكيا، تنغلق وراءها دفتا الباب ببطء وبإحكام.. لم يعرني سائقها أدنى اهتمام، بل لم يلتفت جهتي حتى، وكأنني غير موجود.. هنا.. في هذا الزقاق.. في هذا الحي الراقي بالضبط.. لا أحد يلقي بالا لأحد.. لا أحد يكلم أحدا.. بل لا أحد يكلف نفسه حتى عناء إفشاء السلام .. هنا، القوم لا يكادون يعرفون أسماء بعضهم البعض.. بل حتى لا يكادون يتبينون ملامح وهيآت بعضهم البعض.. وأنا أيضا أجزم أنهم لا يعرفون اسمي رغم السنين العديدة التي قضيتها بين ظهرانهم كحارس ليلي.. بالنسبة لهم اسمي هو "الحارس الليلي"، وكفى. تاريخي، بل وجودي كله يختزل في كوني حارسا ليليا فقط... "حميد"..اسم جميل .. وسهل النطق.. وأنا "جواندولين".. ناديني "جواندو"..هذا أحسن ..أريد أن يكون اسمي أسهل نطقا من اسمك.. قالتها وانفرجت شفتاها على ثغر لامع، وبريق لذيذ ينبعث من عينيها الزرقاوين الصافيتين.. أكيد، إنهم لا يعرفون إسمي .. أما أنا فإنني أعرف أسماءهم، وأسماء أزواجهم، وأسماء ذرياتهم.. إنها مهنتي.. بل إنها مهمتي.. ألست أنا حارسهم الليلي؟.. أليست تلك من مهام الحارس الليلي؟..

تكلُّ ساقاي، فلا تكادان تحملان جثة قد سحقها المرض، وأنهكها الزمن.. ألج مأواي الخشبي، وأجلس على ذلك الكرسي الأعرج.. بين الفينة والأخرى أستطلع المكان من خلال الكوات الصغيرة التي تطل على جنبات الزقاق.. أشعر ببعض الجوع، ومن حقيبتي المتآكلة أخرج وجبة عشائي.. خبز شعير محشو بالجبن، وشايا جدّ مركز أغالب به بطش النوم، فيساعدني على سهر الليل الطويل.. أملأ كأسي شايا، وأشعل سيجارتي من النوع الرخيص.. أشرب دخانها بعمق، وأنفث- بعصبية- ما زاد منه في الظلام، وأنا أرشف الشاي الذي لا يزال يحتفظ ببعض سخونته.. ههههه.. يا لسخرية الأقدار!.. من طبيب واعد، إلى حارس ليلي!.. حارس ليلي لا يأبه أحدهم حتى لمعرفة إسمي، رغم السنون التي قضيتها هنا أحرس ممتلكاتهم ومتاعهم وهم نيام، مقابل دريهمات معدودة شهريا لا يعطونني إياها إلا ما دمت عليها قائما.. بل لقد يتمنون حينها رحيلي.. " حميد" !.. يجب أن ترحل إلى فرنسا لتتابع دراستك هناك.. فأنت حقا نابغة.. إنني أتنبأ لك بمستقبل واعد كطبيب.. لا تتردد.. عليك أن ترحل.. كذلك ظل أستاذ العلوم الطبيعية الفرنسي يحثني منوها ومشجعا.. لا، لن ترحل.. إما أن نرحل معا، وإما أن نبقى هنا سويا.. ألا توجد بالبلد كليات طب؟.. لا أستطيع أن أتصور الحياة ونحن بعيدين عن بعضينا.. كنت وإياها في طريق عودتنا إلى المنزل بعد أن تفحصنا عدة مرات -غير مصدقين أعيننا- قائمة الناجحين المكتوبة بالطباشير على سبورة النتائج المعلقة أعلى الباب الرئيسي للثانوية.. حزنت كثيرا لرسوبها.. ولكنني، ويا لطموح الشباب!.. رحلت دونها!..
يا لطموح الشباب؟؟.. لا..لا، بل يالغرور الشباب!..
أحس بالبرودة تجتاح مفاصلي، وبتنمل خفيف يصعد من أخمص قدمي، فيسري في كافة جسدي.. هو هكذا قاس ولعين جو مدينتنا.. بالنهار حر شديد، وبالليل قر أشد.. أقوم واقفا وكأن الكرسي قذفني إلى أعلى.. ركبتاي تحدث طقطقة كصرير باب حديدي صدئ .. يقف "بوب" أيضا بجواري، وهو يحرك ذيله في نشاط.. أسوّي علي جاكيطتي، وأنا أشد أزرارها.. آخذ مصباحي اليدوي وعصاي، وأنطلق أذرع الزقاق ذهابا وإيابا عسى وطأة البرودة تخف عني قليلا.. يقفز قطٌّ من إحدى الحاويات ويركض هاربا.. ينبح "بوب" ويتوثب ليلحق به.. أنهره بقوة، فيستكين.. يظل يسير جنبي هادئا كطفل ظريف.. في السماء تتراقص النجوم براقة، والقمر تحيط به هالة من نور شاحب.. وعلى الحي يخيم صمت القبور.. أحس بتعب ساحق يجتاحني كلية.. أعود أدراجي وألج مأواي.. أجلس متكئا إلى عصاي.. في الباب، يجلس "بوب" قبالتي على قائمتيه الخلفيتين وهو ينظر إلي.. أمده بما تبقى لدي من خبز جاف.. يتشممه لبعض الوقت، ثم يلتهمه دفعة واحدة.. يقترب مني أكثر من ذي قبل، ويضطجع إلى قدمي.. أمرر يدي على عنقه وظهره في لطف.. يستلذ حركتي تلك، فينبطح أرضا مستسلما كلية وهو يضع رأسه على قائمتيه الأماميتين.. أشعل سيجارة ثانية وأصب كأس الشاي الذي فقد سخونته تماما.. أحس برعدة تجتاح مفاصلي، فترتعش لها أطرافي.. يداي ترتعشان لا أكاد أتحكم فيهما.. ذهلت كالمصعوق عندما أتممت قراءة الرسالة..
- "ما بك؟": صاحت "جواندو" مرعوبة..
- " لقد مات الوالد..": كذلك همست لها في حزن شديد..
عانقتني مواسية.. كانت الصدمة قوية.. وكانت أشد وأقوى عندما نزل علي ثانية خبر وفاة الوالدة.. لقد انتهى آخر سند أتوكأ عليه في دنياي.. هذه المرة كان الخبر مزلزلا بما للكلمة من معنى.. هدّ أركاني.. مرضت.. ساءت حالتي النفسية والجسمية وحتى العقلية.. دخلت المستشفى.. استرددت عافيتي رويدا رويدا.. لكنني رسبت في دراستي لمرات عديدة.. فشلت في مشواري الدراسي.. لقد تبخرت كل أحلامي دفعة واحدة..لا أدري أهي لعنة السماء قد حاقت بي على حين غرة، أم هو الحب الخالص النقي الذي كان يجمع والديَّ أبى إلا أن يعاكسني ويأخذهما اتباعا، فيجمع بينهما هناك في العالم الآخر، ويتركاني في منتصف الطريق.. يقال بأنه إذا داهم الموت زوجين اتباعا، فذاك لأن عروة الحب بينهما كانت وثيقة، لا انفصام لها.. نعم، هكذا يقال.. آه! أمي..آه! أبي .. لروحيكما السلام الأبدي.. أشعل سيجارة ثالثة وبيد ترتعش،أهم بسكب كأس أخرى.. لا.. كفاك.. هذا لن ينفعك في شيء، بل سيزيدك سوءا.. تحاول "كواندو" جاهدة أن تمنعني من التدخين وشرب المزيد من الخمر.. سأرحل.. سأعود.. لقد اتخذت قراري.. كذلك قذفتها بالخبر اليقين، وأنا أكرع ما في الكأس دفعة واحدة.. كانت تنظر إلي بحزن وكآبة.

إلى بلدي عدت أجتر خيبتي، وأجر جسمي العليل، وألملم روحي الجريحة.. عدت إلى مدينتي التي كانت ذات يوم جميلة.. عدت إلى بيتنا الذي كان ذات يوم يملأه الدفء والحنان.. بيتنا؟؟.. لا، لم يعد كذلك.. لم يتبق لي منه إلا مرحاضا، وغرفة يتيمة واطئا سقفها بالسطح.. وأما السكن الرئيسي، فكان من نصيب أخي وأسرته الصغيرة.. ما أغرب الحياة!..بل ما أصعبها!.. إنها أشبه بنهر عميق، لا يمكن التنبؤ بمكنوناته.. ازدرد ريقه وهو يتطلع إلي بنظراته لمعرفة وقع كلماته علي.. ونحن علينا أن نسبح دون ملل ولا كلل لكي نجتازه بسلام.. ثم، بعد صمت وجيز: وإلا غرقنا، وضعنا.. يضيف بصوت مبحوح.. ولكنني أنا الذي كدت أن أضيع ثانية حين علمت بزواجها، وبرحيلها خارج أرض الوطن.. نعم، كانت تلك فلسفة أخي التي حملت لي أكثر من رسالة.. استوعبت جيدا تلكم الرسائل.. وفي صمت. ولأجل ألا أضيع، فعلت كل شيء.. من يومها، تدحرجت في مهن كثيرة: من عامل في البناء، إلى بائع متجول للخضر، إلى نادل في مقهى.. وارتقيت في مهن أخرى متعددة: من حارس للدراجات أمام المساجد والإدارات، إلى حارس للسيارات في الشوارع والأزقة.. وأخيرا، ها أنذا الآن، في هذا الحي الراقي، مجرد حارس ليلي.. الليل في هزيعه الأخير.. والنعاس الشديد يثقل جفني.. أمدُّ قدمي إلى الأمام، وأسند ظهري إلى الخلف متكئا على الجدار الخشبي.. أشبك كفي فوق بطن خاوية.. أرتخي تماما، فأشعر ببعض الراحة.. يومض الضوء البرتقالي ثانية أعلى باب الفيلا قبالة مأواي.. تنفرج دفتاه ببطء.. يخرج الرجل وبيده آنية طعام.. يقبل نحونا، أنا و"بوب".. كم كنت مخطئا قبل قليل فقط عندما ظننت بالرجل ظن السوء، إذ لم يعرني أي اهتمام .. إذ لم يكلف نفسه حتى عناء إلقاء التحية.. نعم!.. إن بعض الظن إثم.. إنه إنسان طيب.. بل يا لطيبوبة كل ساكنة هذا الحي!.. ها هو الرجل يقترب من الباب، ولكن "بوب" يثب عليه فجأة.. يفزع الرجل، فتسقط الآنية أرضا، ويندلق الطعام على التراب.. آخذ عصاي، وأهوي بها على رأس "بوب" اللعين... يصدح المؤذن بآذان صلاة الفجر.. أنظر حوالي.. فقط، أنا.. و"بوب"، إلى جنبي، باسط ذراعيه بالوصيد ..

27/3/2021.
Peut être une image de 1 personne, monument et texte

تعليقات

في رحاب عالم الأدب..

سي محمد خرميز أيقونة من أيقونات المدينة الفوسفاطية.. بقلم عبد الرحيم هريوى الدار البيضاء اليوم/المغرب

عزيزة مهبي؛ المرأة الفوسفاطية بخريبكة ، العاشقة لمهنة التعليم على السياقة، وسط الكثير من الرجال..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

ماذا أصابك يا إعلامي زمانه و يا جمال ويا عزيز الصوت واللحن..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

العين التي أعطت ضربة الجزاء للفتح الرياضي بدون الرجوع للفار هي العين نفسها التي ألغتها بنفس القرار بعدما شوهد الفار- بقلم الكاتب الفوسفاطي /:عبد الرحيم هريوى

"السوليما" الإفريقية بخريبكة بين قوسين..!ومحمد درويش يقول على هذه الأرض ما يستحق الحياة..!! عبد الرحيم هريوى..!

كلمة عن بعد ؛ عبر العالم الافتراضي كمشاركة منا في حق تكريم أستاذ لغة الضاد الأخ مصطفى الإيمالي بالثانوية التأهيلية عبد الله بن ياسين بٱنزكان - عبد الرحيم هريوى

ياسين بونو توأم لبادو الزاكي حارس مايوركا في زمانه..!! بقلم عبد الرحيم هريوى