بالأمس عبد الكريم الأول بنص القرن "المغاربة " واليوم عبد الكريم الثاني بنصه الرائع عن تاريخ القصيبة "رياح المتوسط "ع.الرحيم هريوى خريبكة اليوم المغرب
من رحاب تاريخ القصيبة يتغذى ويتنفس قلم الروائي والقاص المحلي الأستاذ عبد الكريم العباسي..سوف لن نعطي بالتفاصيل كل أحداث عن الرواية حتى تعرف المزيد من المتابعة من طرف القراء على اختلاف مستوياتهم لكن ماسندونه سيعطي للقارئ والقارئة نوعا من التعاقد الأدبي على جودة النص على صعيد الطريقة الحديثة في الكتابة بكل مواصفاتها وشروطها..
وكان لقارئ مجهول لدي أن دون تعليقه عن نص شعري منثور، ويحمل كل الصدق حين قال:
لقد أعدت قراءته.. وتمنيت أن لا ينتهي ..
وكذلك وبنفس المعنى أعيد تكرارها مع نص "رياح المتوسط "
ياليته لم ينته ..!
وياليته مازال طويلا..وننتظرفي رحلة قراءة ممتعة ما سيحمل لنا من المفاجآت مما يجعلنا نحس بمتعة القراءة ونحن نقلب الصفحات وليس بسرعة ذاك المتلهف للنهايات بل للمزيدمن الإطلاع على صورة الكاتب عينه،وهو منزوي في ركن ما يقلب أفكاره،ويجهد قلمه كي يعطينا ما نرغب في قراءته أصلا ..!
ولكن لكل شيء بداية ونهاية..حياة وموت ..!
وكذلك النصوص هي الأخرى تخرج حية للوجود وبروح وجسد من بين يدكاتبها،وستعيش حسب المدة التي تجد فيها مكانتها في عالم التفاعل النصي،وتموت لما تنسى في مقابر بجانب كتب ودواوين لاتشترى ولا تفتح،لغيابها من أجندة القراء والقراءة والبحث عنها في الأكشاك والمكتبات..كنصوص ذات قيمة فنية وأدبية تذكر ..!
وبالفعل"رياح المتوسط"كان نصا جيدا ويحمل حياته الأدبية بكل جمالية وسحرللكلمة وضيق العبارة واتساع في المعاني ونظرة للأفق،وإعطائه القراء مناصفة ما يثير فضولهم و دهشتهم نحو البحث والتدقيق في طريقة التفكير ورؤية الأشياءوالتعامل ككاتب مع الإنسان والتاريخ والطبيعة حتى أنه استطاع أن يحمل القارئ باحترافية بأن يسمع أصوات الحيوانات والطيورورائحة الخبر في" يانور" وأصوات الموسيقى والتمتع بمناظر خلابة صورها لنا بالحرف عن القصر الفرنسي القديم، وبأذواق العائلات الأرستقراطية من خلال سرده الدقيق لغرفه وفراشه وأثاثه والخدم وطريقة الأكل، ومقارنته بين ثقافتين مختلفتين مغربية ظلت محافظة تقليدية وفرنسية عصرية تتحكم فيها الموضة والتحرر.. !
قليل هي تلك النصوص التي تجعلك بحق تتلذذ بمتعة ما في قراءتها،وأنت تتحول كمشارك وشاهد عيان على ما رأيته وماحضرته من أفراح وأحزان بين أبطالها..وأنت تتحرك معه متخفيا في صفة قارئ أو قارئة ..
لذلك نقول للكاتب والأستاذ عبد الكريم العباسي صاحب رائعة "رياح المتوسط"بعدما أنتهينا من قراءة فصولها الثلاثة ،وبتأن وبقلم ومفكرة،وكلما أثارتني صياغة بليغة وصورمن خيال أدبي فيه من البناء المحكم والتحكم الزماني والمكاني بثقة الكبار والوصف الدقيق على طريقة غابرييل غارسيا أو هيمنجواي للشخصيات والفضاءات والألبسة والمأكولات والدقة في ترتيب الأحداث الزمنية من الماضي للحاضر والرجوع إليه للخوض في أحداث لاحقة أكثر إثارة..وفيها من خلق للحبكة والاندهاش ماتمتلكه إلا الأقلام التي استفادت من الكتابة الروائية العالمية،وإذا كان عبد الكريم الأول ابن بني ملال نفسهاشغل المغاربة بالمغاربة من خلال نصه الهوياتي بتجليد الذات المغربية،وجعل منه نص القرن كماعبر البعض عن قيمته الفنية والأدبية،فها هو عبد الكريم الثاني يخوض بروية في إعادة صياغة التاريخ المحلي للمدينة التي عاش وكبر فيها "القصيبة "التي صنعت منه قلما يحكي ما يحكيه عن زمانهاالبعيد بلغة الأدب الحديث من خلال نص روائي أدهشني بكل شفافية وبدون تحيز،لقد أشبع من جوعي أحمله،وكأنني أشاركه كتابة نصه لجماليته وقوته وبنائه العمراني البديع لغة وخيالا ووصفا وصدقا ورحابة في اتساع الأفق، في ما دونه من عبارات تحمل ثقافة رجل تعليم ألف الرواية وعاشرها العمركله..!
رياح المتوسط بطلها مغربي أمازيغي ابن القصيبة ميمون الذي يمثل شخصية الإنسان المهدور في وطنه، لم ينل نصيبه من التعليم ويعيش ببيع جهده بما يسد رمق جوعه وجوع عائلته بعد رحيل والده المقاوم،والفرنسية الأميرة الحسناء فرانسواز ووالدها الجندي ميشال الذي ظل من أذناب الجيش الفرنسي وتاريخها الأستعماري البغيض في التقتيل والتهجير والاغتصاب والقمع ونهب ثروات وخيرات الأرض وتصديرها لبناء بلاد الجنرال ديغول..!
ولو طلب مني أن أعطي عنوانا ثانيا للنص لكان باسم أسطورة ميمون القصيبة، شبيه بقلب الأسد والرجل الأسطوري،وبذلك نكون أمام إلياذة وأوديسة جديدة بطلها أوديسيوس وقهره أسوار طروادة وغضب البحارو بنكهة مغربية تعطينا أي شيء نبحث عنه عن ما هو مغربي في أكله ولباسه وعرضه وزواجه وفقره وقناعته وترحاله وصبره وعشقه وغرامه وليله ونهاره..!
وحتى نستفز الفكر النقدي الروائي المعاصر، ونبحث لنا على صنف وصيغ جديد من القراءة للنصوص والبحث عن الأشياء المضيئة والمشرقة فيها،ونحاول أن نعيد صياغة ما نحمله من أدوات نقدية قديمة ظلت تجتر مما أعطاها تلك الصفة التي لا تعطي للنص حيوات جديدة يبحث عنها لدى القراءمناصفة.وبذلك لايكون لزاما أن نبحث عن تعاقدات أدبية تجعلنا غير متحررين في إعادة رسم ملامح جديدة لنصوص قرأناها بمخيال أدبي جديد، وصرنا نطرح أسئلة عن الذات القارئة والأخرى عن الكاتبة كي نبحث لناعن أجوبة لأسئلة مركزية كبرى أثارتها النصوص تلك ..!
لقدأعطى الكاتب لنصه "رياح المتوسط" وقته الطويل كي يرسم له طريقا معبدا، ويجد له مكانته التي يستحقها بين النصوص، ولذلك فقد أبدع في فصوله أي إبداع لفنان كبير ألف كتابة أمهات النصوص، ولقد دوخني بكل ما للكلمة من معنى،فقد استطاع أن يحطم الأصنام في الكتابة النصية في مجال الرواية المغربية، إذ عادة ما نجعل الطابوهات بعيدة كل البعد في الخوض فيها لأسباب نعرفها كفلاسفة ومفكرين "عابد الجابري في كتابه "العقل السياسي العربي" وذلك لذوبان العقائدي والسياسي والثقافي واللاوعي النفسي في عدة أعراف وتقاليد نحملها ونتناقلها عبرالأجيال دون أن نخبر فيها المنطق ولغة السؤال والعقل كي يستمر الواقع باللون الرمادي والأسود ولصالح فئة دون أخرى ..!
ولكل ذلك أجد نفسي محظوظا من خلال ما اخترته من مكتبتي الخاصة عن باقي النصوص في قاعة الانتظار، هذا النص الروائي "رياح المتوسط "للصديق والقلم المحلي الأستاذ عبد الكريم العباسي،ولعله صاحبني في قراءة نوعية ومتأنية وبعيون مستبصرة لعلي أجد فيه ضالتي خاصة وأننا حينما نرتقي في قراءاتنا لا نبحث إلا على الجودة من النصوص حتى لا نضيع معها وقتنا وجهدنا بدون أثر ولا منفعة نرجوها ..!
وقد أصدق نفسي القول،النصوص التي يتعب أصحابها في إخراجها لحيز الواقع تحتاج منهم الكثير من الاستعداد القبلي والتهيئ النفسي وربما العزلة أو البحث أو مدة زمنية تحسب بالسنين ..!
وأعود للنص الذي بين أيدينا مرة "رياح المتوسط" إذ نذكر بأنه هو ٱمتداد لمشروع أدبي في مجال الكتابة الروائية للكاتب عبد الكريم العباسي، للمصيدة 1و2 وملاذ التيه وما بعد هذه الرياح التي بين أيدينا ،قد صدر له عدد جديد سماه " برياح الخطيئة ..أشياء كثيرة يمكن لنا أن نسردها عن نصه هذا الذي لا يخلو من كتابة بلغة بيضاء ونسج لأحداث تاريخية مهمة عن المغرب في عهد الحماية ومدينته القصيبة..والتنقل عبر أماكن مختلفة واسترجاع وحكي وإثارة عواطف القارئ.. والمهم من كل هذا وذاك أنك تحس بأن عمله فيه نوع من الترابط بين فصوله، وكثير من الإبداع والتشويق والفيد باك وماصنعه من حبكة تعطي لنصه جماليته الأدبية في عالم التناص..! لذلك نعتبره من النصوص التي فيها ما فيها من الرغبة في العطاء والتجديد وبلغة التحدي لدى الكاتب، وذلك لما ٱكتسبه من خبرة في الكتابة الروائية والقصصية.. وكذا اطلاعه على نصوص عربية ومغربية وعالمية أعطته مخزونا لا يستهان به من اللياقة الأدبية والفنية كي يعطينا نصاروائيا مغربيا وتاريخيا مائة في المائة .وقد نكون اليوم مع نبذة من قراءة وجدانية لنصه الروائي " رياح المتوسط " والذي أعتبره من النصوص الروائية التي تلامس التاريخ في لباس أدبي عصري بكل الشروط المطلوبة من معايير تاريخية تتعلق بزمن ماضي يجس نبض واقع، ومعاناة لأجيال أقبرت من قهر المستعمر الفرنسي وتنكيله بمجاهدي الأطلس الذين ظلت أسماؤهم تعتبر من ضمن أبطال و أشاوس هذا الوطن وأسوده الأصيلة بالفعل..
وصدق القاص العربي والمغربي الكبير أحمد بوزفور صاحب السندباد والنظر في الوجه العزيز،لما قال عادة ما أبدأ في قراءة نص أختاره من بين النصوص لكن سرعان ما أرميه بعيداعني،وكأنه يريد أن يتبرأ من دمته وهو يبعده بطريقة دراماتيكية عن طريقه،وذلك لغياب شروط الكتابة المرجوة منه..
والنص الروائي الجيد يجعلك تقترب من فصوله أكثر وذلك لما تلمسه في بدايته من ترابط للفصول وتشويق وأسلوب وشخصيات وإثارة وأصوات وغيرها، تثير فيك الحماس و الإندفاع أكثر لإشباع ذاتي لما أنت مقبل عليه من مغامرة في عالم القراءة التي تتمناها غير مضيعة للجهد والوقت..!
سبق أن قال صاحب رائعة ((المغاربة )) عبد الكريم الجويطي الكتب كالأصدقاء هناك كتب اشتريناها ما زالت تنتظرنا على رفوف المكتبة كي نتلمس مكانها و نعطيها فرصة لفتحها،ولكي نعيد لها دفء الحياة التي ما فتئت تبحث عنها..ومن أجلها وجدت تلك النصوص وخرجت إلى الواقع الثقافي والأدبي،لكي يقرأها أكبر عدد ممكن من القارئين و المتعطشين للنصوص الكبيرة والمتوسطة..هذا إن كانت بالفعل من النصوص الجيدة والمثيرة والخصبة.. وفيها ما يشد القارئ والقارئة..وليس أي قارئ ..إنه ذلك الذي يقرأ بجوارحه وعيناه لا تقوم إلا بالمسح البصري لما تم نسخه من نصوص..
والقراءة الممتعة تحتاج لشروط منها التأني في القراءة وعدم التسرع والوقوع في فخ السرد وتبتلع بسهولة من طرف الكاتب، وتمسي طغمة صائغة من القراء الذين يسارعون الزمن من أجل معرفة النهايات..!
نقرأ بمذكرة وقلم ونبحث لنا عن أي عبارات أدبية و سياق لغوي جميل صادفناه كي نعود إليه عند تقييمنا للنص..!
نقرأ في لحظات الحاجة للقراءة وبتركيز شديد لكل فصل نمر عليه..نعيش في الفضاءات التي تعبرها فصول النص الروائي،ونشارك الكاتب كل صغيرة و كبيرة تحتاج منا أن ننخرط بشكل إيجابي في الحكي السردي الذي يتحفنا به..وكل الشخصيات التي سنتعرف عليهم لابد من طرح أسئلتنا المقلقة على الكاتب لماذا أدرج ذاك وبكل تلك الصفات والصور..!؟
فإلى أي حد استطاع الروائي المغربي ٱبن القصيبة الصديق عبد الكريم العباسي أن يعطينا الجديد الذي نبحث عنه من خلال منتوجاته الأدبية القديمة والجديدة عبر رياحه المتوسطة المتنوعة.. ؟!؟
وذاك ما أجابتنا عنه روايته التي بين أيدينا "رياح المتوسط..!!"
لكن لابد أن يبقى لكل قارئ وقارئة نظرته ومستوى تحليله ونقاشه للنصوص الروائية،وتوجهاته الفكرية والأيديولوجيته، وهو يعطي للنصوص حيوات جديدةحينما يخرج للعالم ،ولم يمسي بعدهاوملك للكاتب عينه..وهاهنا يكون تقييمنا الشخصي بطرق فنية وأدبية وعدم مجاراة القراءة النقدية الأكاديمية لأن ذلك يحتاج لبناء وتفكيك ميكروسكوبي بشكل من الأشكال،والاعتماد على آليات دقيقة ومعتمدة في المدارس النقدية من البنيوية و الشكلانية الروسية ..بما يراه من جودة يجدها وهو يطوي صفحات الرواية وبصبر وتأن ويأخذمن وقته ما يكفيه من لحظات ٱسترجاع فصول هذه الرواية..!
ولقد صادفت عبر عبارات من رواية رياح المتوسط للروائي عبد الكريم العباسي استدلاله بأسماء من كبار الروائيين العالميين إرنست همنغواي الذي شارك في الحربين العالميتين وكان لمشاركته كما ذكر تأثير قوي على كتاباته الروائية ،وهو صاحب كتابات ترى في العقل الإنساني قوة نفسية هائلة،لذلك كان من بين عناوين نصوصه المشهورة سيناريوهات الحرب "وداعا للسلاح ..وكذا للروائي والناقد الفرنسي الكبير مارسيل بروست صاحب النصوص المدجرة ومن خلال " الزمن المفقود"والمتع والأيام " واعتبرهم من مشاهير الرواية العالمية..
شكرا لك سي عبد الرحيم على هذه القراءة المستفيضة، لك مني كل المحبة والتقدير
ردحذفقراءة عميقة النص الروائي لقصبة غالية تم تصويرها توددا واستعطافا لما تحمله من ذاكرة قوية نضالا وطيبا وكرما
ردحذف