حلم..!!بقلم ذ: محمد مكسي
حلم بقلم
ذ* محمد مكسي
في غرفتي استعيد حلما قديما . ففي هذه الغرفة تستريح صور قوارب الصيد إلى جانب رسوم بالحبر الصيني لسفن شراعية قديمة وهي وسط البحر أو راسية في موانىء مهجورة ...تستريح هذه الصور والرسوم ولا تنام .ولا اعرف ان كانت تنتظر عودتي إلى البيت ، او انها تتمنى التفاتة مني ، اكيد ان ذلك مجرد تخيل يمتزج بحقيقة لا استطيع نكرانها. فحين أعود إلى غرفتي وأشعل الضوء تتجه عيناي إلى ذلك الرسم الجميل الذي احتفظ به منذ ثلاثة عقود ..رسم جميل لقارب من ورق غير مشدود بحبل .كان القارب يقف متماوجا ،او هكذا اتخيله ، بين الصخور السوداء التي توحي بأن المكان كان ميناء مهجورا لم يعدد يغري السفن القادمة من بعيد .
كنت طفلا يحب هذا الميناء المهجور ،وكانت والدتي تخشى علي من البحر ،ومن هذا المكان بالذات . كان الميناء المهجور يغري الأطفال والشباب بالسباحة .وكان الكبار يرونه مقبرة لكل مغامر متهور . لم تكن والدتي تعلم أن " درس الأشياء " الذي يقدم لنا انشطة مغرية بالتجريب..مثل درس صناعة قوارب من ورق او طائرات ورقية .لم تكن تعلم أن مثل هذه الدروس كانت سببا رئيسيا في قضاء وقت أطول في البحر ،وفي ذلك الميناء المهجور الذي قد يبتلع الصغار والكبار .
تعلمت من هذه الدروس كيف اصنع قاربا من ورق ،كما تعلمت كيف اصنع سفنا اكبر من قوارب الصيد..كنت آخذ الاشرعة من تلك بقايا الكتان الابيض التي يرميها الخياطون أمام دكاكينهم. وكنت حين انتهي من صناعة القارب او السفينة اتجه إلى الميناء المهجور..هناك ارمي ما صنعت في البحر ..لكن ما كان يؤلمني هو إصرار القوارب على البقاء بين الصخور . كانت ترفض الابحار، ولم أكن أريدها ان تعود ..لم تكن السباحة تشغل بالي لأن حلمي كان هو ألا تعود ..اغلب زملائي في الفصل كانوا يفضلون صناعة الطائرات ،وكان حلمهم كحلمي الا تعود هذه الطائرات الورقية ..كانت طائراتهم غالبا ما تسقط على مكتب المعلمة الفرنسية ،أما قواربي او سفني فكانت لا تبرح مكانها ،كانت ترفض الإبحار ..كنت حين تفشل هذه القوارب اسحبها وامزقها وأعود إلى البيت لاصنع غيرها ..ولعل هذا هو ما يفسر بقاء الحلم إلى يومنا هذا..ومن القوارب الورقية بدأت اجرب قوارب من خشب..متذرعا بأن المعلم كلفنا بصناعة قوارب صيد ..كان أملي هو ان يكون قاربي من بين الذين سيحظون بتقدير مدرس الأشياء...وكان التقدير هو ان يدخل ما اصنعه إلى متحف المدرسة ...شيئا فشيئا اخذ الحلم منعطفا آخر سيلعب فيه القراءة دورا هاما في حياتي..فبعد هذه المرحلة بدأت اقرا حكايات السندباد البحري ،وحكايات البحارة الذين وجدوا أنفسهم ابطالا لحكايات المغامرات العجيبة ..وتطور هذا المنعطف بشغف مثير لحكايات موبي ديك..وحكايات صيادي الشمال ،ومطارداتهم للحوت ،وتعمق اكثر حين قرأت رواية " العجوز والبحر " لهمنغواي .. وحكايات القراصنة .قرأت رواية همنغواي اكثر من مائة مرة وشاهد ت الفيلم الروائي مئات المرات..وفي هذا المنعطف لم يتبخر الحلم القديم ،ولكنه ارتدى اشكالا أخرى..والى يومنا هذا فأنا أتوجه إلى البحر والميناء واتأمل تلك السفن الضخمة ، وعودة البحارة إلى اليابسة . ويوم صدور رواية محمد زفاف " قبور في الماء " كنت من الأوائل الذين قراوا هذه الرواية التي رصدت مأساة صيادي السمك في المهدية ..فهل كان صيادي المهدية على قوارب شبيهة بقواربي الورقية ؟ ام ان البحر يبقى هو البحر كما كانت تردد والدتي على مسمعي..الناس لا تلعب مع البحر !؟ وعاد السؤال مرة أخرى مع فاجعة " تيطانيك " ،عاد السؤال ،مع هذه الفاجعة وعاد مع ظهور قوارب الموت ..
تعليقات
إرسال تعليق