مما ذكرني به الفيسبوك ...!! قصة قصيرة .. بقلم عبد السلام كشتير
مما ذكرني به الفيسبوك ...!!
قصة قصيرة ..
الإمام ...!!
ألفينا المسجد القريب الذي اعتدنا الذهاب إليه لأداء صلواتنا المكتوبة غاصا بالمصلين ، بل حتى الفضاءات المجاورة له والتي تغدو ملحقات للمسجد في مثل هذه المناسبات ،قد امتلات عن ٱخرها ، ولم تعد تتسع لمزيد من الرواد ..
عادة ما تزدحم المساجد بالمصلين في شهر رمضان ، وأيام الجمع منه على الخصوص ، لارتفاع منسوب الإيمان وتزايد نسائم الروحانيات عند الجميع ، فيكثر عدد الوافدين على المساجد بشكل مبالغ فيه أحيانا ، مما يصعب معه إيجاد مكان فارغ بداخل المساجد .. فيلجأ المصلون إلى الفضاءات المحادية لها ، يفترشون كل ما ييسر لهم سبل آداء الصلاة .. فتقطع الأزقة والشوارع وتتوقف فيها الحركة إلى ما بعد انقضاء الصلاة ..
إنتقلنا أنا ورفيقي إلى مسجد آخر حديث البناء ، وأكبر من مسجدنا وأرحب ، ويتسع لأضعاف أضعاف المصلين مقارنة مع الأول .. فبالرغم من وجود عدد غفير من المصلين خارجه ، إلا أننا ألفينا بداخله أماكن شاغرة ، تتيح لنا ٱداء فريضتنا في ظروف مواتية ..
يحكي لنا صديقي الذي يجاور هذا المسجد ، بأن المحسنين مولوا بناءه ، وتطوع فريق من سكان هذا الحي الشعبي ، فسهروا على جمع التبرعات من أجل إنجاز كل مرافقه وإتمامها ، ووفروا كل صغيرة وكبيرة فيه ..فصار مسجدا فخما يضرب به المثل في الرحابة وحسن التجهيز ..والإقبال على الصلاة فيه ، طلبا للاستماع والاستمتاع بقراءة ودروس إمامه الشاب الذائع الصيت على الخصوص ...
بعد أداء تحية المسجد ، أثارنا صعود الإمام إلى المنبر في هذا الوقت بالذات .فلا زال توقيت الخطبة والصلاة لم يحل بعد ولو يؤذن لهما .. فزاد فضولنا لمعرفة دواعي هذا التبكير إلى المنبر !
لم نألف أنا ورفيقي هذه البدعة في مسجدنا أو غيره من المساجد التي نرتادها .. فوضح لنا شخص يجلس بمحاداتنا لما قرأ المفاجأة بالأمر على ملامحنا :
- " أن هذا الإمام دأب على إلقاء دروس دينية في الموعظة الحسنة قبل حلول وقت خطبة الجمعة والصلاة ، فيريدها أن تكون نفحات روحية وإضافات مستحبة للتذكير بالفضائل الجمة لهذا الشهر المبارك "..
وزاد مادحا الإمام ..
- " إنه فقيه متمكن يفيد الناس في شؤون دينهم ودنياهم بهذه النفائس والدرر التكميلية التي يلقي على مسامعهم كل جمعة ، وأحيانا بين العشاءين "..
وقف الإمام على المنبر وكبر وحمد الله وسبح وشكر .. ثم شرع في إلقاء درسه المعتاد في الوعظ والإرشاد ..
والإمام رجل في عقده الرابع أو دونه بقليل مربوع القد ، تميل بشرته لسمرة خفيفة ، تملؤ وجهه لحية سوداء كثة تنسدل إلى أسفل رقبته .. وقد زاد لباسه الأبيض من إبراز لون بشرته واللحية ، وإضفاء مسحة الوقار عليه ..
يقف الإمام على منبر خشبي رفيع النقش والصناعة ، ويعلو بحوالي دراعين عن منبر مسجدنا المعتاد .. يتوسط الجهة القبلية من المسجد ، التي جمل جدارها بالزليج البلدي المغربي الأصيل زاهي الألوان ، تليه مباشرة نقوش وأشكال رسمت على الجبس وزينت ماتبقى من مساحات الجدار ، متوجة بآيات قرآنية كتبت بالخط المغربي المبسوط ..لتلتقي مع نقوش الجبس المبهرة لسقف المسجد، راسمة أشكالا متنوعة ومنمنمات من فن الزخرف المغربي الأصيل ..ومطلية بألوان طلاء ناعمة تتقارب مع ألوان الزليج البلدي وتتماهى معه ..
يتدلى من سقف المسجد الشاسع عدد من الثريات النحاسية الفاخرة في تناغم كبير مع الألوان والأشكال التي تؤثث فضاء المسجد الرحب..الذي غطيت أرضيته بزارابي مخملية ذات اللون الأحمر القاني .
جهز المسجد بنظام للصوت رفيع المستوى ، يسمع من خلاله المصلون صوت الإمام ومواعظه بشكل متساوي ومتناسق في كل زوايا المسجد وخارجه .
أكد الإمام في درسه على علاقة التكنولوجيا الرقمية الحديثة بالعبادات وسائر مناحي الحياة..وكيف أنها تتسبب في الغفلة عن الله وعن الذكر وعن أداء الفرائض في وقتها..فيهدر الإنسان معظم وقته الثمين في التنقل بين المواقع ومنصات الدردشة ، والتفرج على المباريات الرياضية والأفلام .. وقد يقع في المحضورات حينما يطلع على مواقع الفسق .. مما يزيد من تفاقم زلاته وتعاظم ذنوبه والإبتعاد عن المقومات الحقيقية لمحجة الدين الإسلامي الحنيف .. وتصير سببا في إلهاء مستعمل هذه التكنولوجية الوافدة على مجتمعنا الإسلامي، عن قضاء مآربه الدينية والدنيوية في وقتها .. خاصة الشباب المسلم .. فتكثر زلاته ويضعف إيمانه والعياذ بالله ... !
تبين لنا أن مثل هذه المواضيع أصبح معظم الفقهاء يروجونها لدغدغة مشاعر المصلين،وليظهروا أمامهم بمظهر المدافع عن الدين من شراسة هجوم التكنولوجيا الحديثة المارقة لا أقل ولا أكثر .. من خلال تبادلنا أنا ورفيقي نظرات عبرنا بواسطتها عن امتعاضنا من مثل هذه الدروس المبتذلة ، وهذا الطعن غير المبرر في التطور الذي أملته تعقيدات الحياة وضرورياتها ..
بقي الإمام على حاله وهو يصرخ بين الفينة والأخرى ليعطي لما يقول قيمة دينية وشحنة روحية إضافية في اعتقاده ، ويثبت ذلك لدى مستمعيه ...
قبل أن ينهي إمامنا هذا درسه القبلي الذي اعتاد أن يلقيه على مسامع المصلين .. إنطلق الأذان والإعلان عن خطبة وصلاة الجمعة .. فسكت الإمام وجلس على المنبر يستمع للآذان كما يفعل كل مرتادي المسجد .
ونحن نردد مع المؤذن كلمات الأذان بهدوء ، لما في ذلك من الأجر .. إذا بهاتف الإمام يرن ! .. مد يده إلى جيبه فأخرج هاتفه الذكي وألقى به على أذنه ، ثم انطلق في الحديث مع مكلمه دون أن يكترث بالآذان الذي لا زال لم ينته ، أو يحترم حضورنا ، ودون أن ينتبه إلى أن الميكروفون المثبت على سلهامه والقريب من فمه .. ينقل إلى كل المصلين داخل المسجد وخارجه تفاصيل مكالمته الهاتفية ..وهو يتململ في مكانه ويضع رجله فوق الأخرى في حركة لا تمت لأداب المسجد في شيء ..فدخل مع مكلمه في الحديث عن أمور بينهما لا تهمنا البتة .. وعن لقاءاتهما وجلوسهما في المقهى ، وعن العشاء السابق وقيمته والحضور الذي إزدرده باستثناء مكلمه الذي غاب عنه وحرم من أطباقه اللذيذة .. وهو يفصل بين ما يقول بقهقهات بين الفينة والأخرى ..يسمع دويها في مكبرات الصوت داخل المسجد وخارجه كأنها طلقات مدفع قريب منا ...
لمست لا مبالاةالمصلين وسكوتهم ، وقبولهم بالأمر ، في تواطؤ واضح مع الإمام في فعلته .. فقلت في نفسي ربما تعودوا على مثل هذه السلوكات ، فصاروا يعتبرونها فقها أو جزءا منه .. توجهت بالكلام لرفيقي طالبا منه أن نذهب إلى حال سبيلنا أو نبحث عن مسجد آخر .. فالأمر أصبح لا يحتمل .. لكن رفيقي رفض اقتراحي وطلب مني أن نمكث ، بل ألح علي في ذلك ،فالمسجد غاص بالمصلين ويصعب معه المرور بينهم ، وإيجاد منفذ للخروج .. ويعتبر ، إضافة الى ذلك ، أننا هنا لنفوز بأجر صلاة الجمعة ، فلاداعي لأن نفتن أنفسنا ...!
تعليقات
إرسال تعليق