المدير والجراد قصة قصيرة نورالدين بنصالح زرفاوي/المغرب
المدير والجراد
قصة قصيرة
نورالدين بنصالح زرفاوي/المغرب
ط ذلك ولج الباب الزجاجي العريض، ثم انعطف يسارا.. وأخذ يصعد الدرج مسرع الخطى، يتجه رأسا صوب مكتب المدير بالطابق العلوي.. الأمر جلل، لقد سبق له أن عاش نفس التجربة في أقصى جنوب الوطن، وإذا لم يحارَب العدو في مهده، ستحدث كارثة! ..
استقبلته الكاتبة بابتسامة باهتة.. سألته موضوع الزيارة.. أجاب:
- لأمر مهم ! ..
غابت في الحجرة الفسيحة لثواني معدودة، وعندما عادت قالت باقتضاب:
- السيد المدير مشغول الآن بأمور أهم!..
وقف مبهوتا.. استدركت هي:
- عد غدا ..
" أمور أهم ؟!.. وهل هناك ما هو أهم من المهم؟.. يا للمنطق!.. ما هكذا تدار شؤون البلاد والعباد !.. أنا أقول الأمر في غاية الأهمية، وهو يقول عد غدا؟ .. وماذا تراه يفعل الآن يا ترى حتى لا يجد دقيقة للاستماع إليّ ؟.. عد غذا؟!.. هكذا قال!.. عد غدا!.. لا.. لا غدا، ولا بعد غد.. الآن، الآن وليس غذا ! "..
أخذ قلما، وخط رسالة مقتضبة بخط يده.. وقعها باسمه وبصفته.. ناولها للكاتبة وانصرف.. وضعتها الأخيرة في ملف الواردات، ثم أسرعت بوضعه على سطح مكتب المدير المصقول بعناية.. وبما أن السيد المدير المحترم كان مشغولا بما هو "أهم"، فإنه لم يعره أدنى اهتمام...
رشف المدير قهوته السوداء، وهو يتلذذ مذاقها اللذيذ الفريد.. خلفه، شيء ما ارتطم بزجاج النافذة.. التفت.. لاحظ جرادة يتيمة تلتصق بالزجاج من الخارج.. تلقائيا، تخلص من الجريدة وأسرع إلى النافذة.. فتح فردتها بحذر شديد حتى لا تطير الحشرة.. أمسك بساقيها الطويلين المشوكين.. رفعها أمام عينيه، وتفحصها طويلا.. حاول أن يتذكر اسمها بالفرنسية وباللاتينية، وأصلها وفصلها، وحتى دورتها البيولوجية.. بحكم مسؤوليته - وليس تكوينه- فهو يتظاهر بمعرفته العميقة بكل الحشرات، الزاحفة منها والطائرة.. في تلك الأثناء، عادت به الذاكرة إلى الماضي السحيق.. تذكر غزوة بني جنسها لواحتهم الخضراء الفيحاء المتاخمة للصحراء، وهو إذ ذاك دون السادسة.. تذكر الخسائر الفادحة التي أحدثتها بالمزروعات، وكيف حاربها الفلاحون، وكيف جعلوا منها وجبة غدائية شهية مملّحة مقرمشة بعد أن كادت أن تتسبب لهم في مجاعة.. تذكر تلك الأنشودة التي ظل يرددها مع أترابه من أطفال الجيران حينها:
" آجرادا مالحة، سيري لجنان الصالحة..."..
أحس ببعض الملوحة في فمه.. ابتسم ابتسامة صفراء، وأطلق سراحها لعلها تطير إلى "جنان الصالحة".. غير أنها حطت غير بعيد في حديقة الإدارة..
" مسكينة.. جرادة تائهة! "..
هكذا فكر، وهو يقفل زجاج النافذة...
*
اقتحمت الكاتبة عليه خلوته اللذيذة، وقد استبدّ بها ذعر طاريء.. رفع إليها نظرة مندهشة متسائلة.. قالت مرتبكة:
- سيدي، الجراد يغزو الحديقة! ..
انتفض واقفا.. واتجه مسرعا نحو النافذة العريضة.. سرب كثيف من الجراد يغطي الأشجار والأزهار.. صاح دون أن يلتفت إليها:
- اللعين!.. نادي لي عليه في الحين!....
مرتبكة أجابته:
- من سيدي المدير؟ .. الجراد؟..
نظر إليها غضبانا أسفا.. فهمت من المقصود.. انسحبت وهي تتعثر في خطواتها..
حانت منه التفاتة فوق مكتبه.. وقع بصره على ملف الواردات.. تذكر طلب الزيارة.. أسرع بفتح الرسالة.. قرأ بعجالة:
" السيد المدير، لقد جئتك بخبر يقين.. جحافل جيش جرار من الجراد تتربص بجنوب البلاد، فاقض ما أنت قاض.. وبه وجب إخباركم. والسلام على من شغله الأهم عن المهم"...
رنّ الهاتف.. أخذ السماعة بيد ترتجف.. أتاه صوت حاد.. امتقع لون وجهه، فاستحالت سمرته الداكنة إلى اصفرار قاتم.. نضح جبينه بحبيبات عرق بارد.. انعقد لسانه، فلم يستطع أن يحري أي جواب.. بقوة، انقفل الخط في وجهه.. وضع السماعة وانهار على كرسيه.. أزال نظارتيه البصرية، وفك ربطة عنقه.. في ذلك الوقت كان "اللعين.. صاحب الخبر اليقين" وسط مجموعة من الفلاحين المتضررين يحصي الخسائر الناجمة عن غزو الجراد...
( 2006)
تعليقات
إرسال تعليق