الذاكرة التي تأبى الترويض..!! بقلم الكاتب رشيد بلفقيه
الذاكرة التي تأبى الترويض..!!
بقلم الكاتب
رشيد بلفقيه
الذاكرة التي تأبى الترويض، تعربد مثل مهرة جامحة في فضاءات الفكر، كلما تعرضت للاستفزاز، فكل صورة، أو كلمة، او عطر قديم، أو لحن أغنية تعتقت في قبو النسيان، وكل حالة نفسية، أو خاطرة عابرة، كلها تفاصيل دقيقة، خطيرة، كافية -كلما حضرت- لإطلاق المارد من قمقمه بدون إنذار.
منذ أن رأيت الصور -المرفقة بالخاطرة- كتبت أوراقا كثيرة بيدي، وعلى حاسوبي.
مزقت بعضها، ومسحت بعضها، تجاهلت وتناسيت، ومع ذلك علق في الفكر منها بقايا، تجمّعت لتمحَقَ رتابة جاهدتُ مطولا لخلقها، ولتُدخلني في حالة انعدام توازن بين ما مضى وما أنا عليه الآن.
حالة عسيرة حقا خمّنتُ أنه لن يخرجني منها سوى التخلص من ثقل تلك الخواطر كيفما اتفق، بعد اختصارها بقسوة.
الصور لمن سيقرؤون هذه التدوينة لإمغاتن،
وهي منطقة من مغربنا الحبيب، من تلك الفئة من مناطقنا التي لا تظهر على الخرائط، بعد أن حُكم عليها بالتهميش لصغر حجمها، أو لخيارات المسؤولين، أو لحسابات أخرى، فتعايشَت معهبما أن لا حلول أخرى لها، ونمت وفق طرائقها بعيدا عن كل ضوضاء قريبا من صمتها الخاص،.
هي إلى جانب كل ذلك منطقة مهادنة، مسالمة حد الملل، اختارت الانعزال في مكان ما عند أقدام الأطلس الصغير، تحرس عزلتها سلسلة جبال باني، العسيرة والجرداء طيلة السنة، ككل جبال منطقة فم زكيد الحدودية، التابعة لاقليم طاطا.
إمغاتن لا تستقبل الغرباء بالورود، ولا تقودهم بسهولة نحو حدائقها السرية، ولا تسلمهم أسرارها أبدا، لكنها تودعهم بدموع صادقة، إذا تمكنوا من نقش أثر لهم على أحجارها الصلدة، وتحفظ ودهم كما تُحفظ العهود القديمة.
إمغاتن عصرت الحياة وقبضت رحيقها، وتخلت عن كل الكماليات. لم يكن ذلك خيارها، بل كان ضريبة تكيفها العسير مع شروط الإهمال والتناسي، لتتجلى صادقة حد القسوة، ساذجة حد الحنق، شاسعة حد الضياع، رتيبة حد الخلود، جميلة -كلما شاءت- حد الفتنة، أصيلة إلى الحد الذي يمسك بيدك ويرجعك عقودا إلى الوراء، لتفهم جزءا من عادات هذا الشعب طيب الأعراق، تلك العادات التي شوهتها حالة التمدن السريع في الحواضر وظلت محافظة على جوهرها كما هو في المناطق المهمشة.
قيل لي أنني كنت من المدرسين الذين قضوا أطول تعيين بها، كل من سبقوني كانوا ينتقلون بعد موسم أو موسمين غالبا، لكنني أكملت الموسم الرابع بها، والمدة نفسها بمنطقة قريبة منها، تشبهها تقريبا، فكدت بذلك أقفل العقد في تلك الفيافي. أكان ذلك لسوء حظي، أم لحسنه، لا أدري صدقا، ولم يعد ذلك مهما كثيرا. أتأمل الصور الآن، وأقول:
مالذي منحني تلك القدرة على الاستمرار هناك كل تلك السنوات بالشغف نفسه، والانضباط عينه، حتى آخر رمق؟ أكان ذلك لإيماني -حينها- بأن الغد حتما سيكون أجمل؟ربما...
لكنني الآن وقد بلغت ذلك الغد وتجاوزته إلى ما بعده بمئة غد أو يزيد، أتساءل-ما بقي السؤال بحث سرمدي عن الاكتمال- أكان ذلك الغد يستحق كل ذلك العناء؟ لا أدري أيضاً...
في الحقيقة لم يعد أي من كل ذلك مهما، فللذاكرة وحدها الآن الحق الكامل في ترتيب الفوضى التي يخلقها كل اختلاط في الأزمنة نتيجة لجموحها البغيض.
تعليقات
إرسال تعليق