حين يأخذني الزمان مع المقاربة المنهجية للقصيدة التي كتبها الأستاذ الناقد أحمد الزعيم
حين يأخذني الزمان
مع المقاربة المنهجية للقصيدة
التي كتبها
الأستاذ الناقد أحمد الزعيم :
وحدي أبكي على زماني
أتجرع الألم ..
أبوح بخواطر لونتها
بألوان البؤس و الوجع
مكرها ..
وحدي أبكي على زماني ..
منذ أن حولتني الظروف
إلى حلم يرقص في شوارع الحياة
على وهم مؤلم
سكنني من بعيد
لم يتحقق ..
ولو أني كنت علقت عليه الأمل
حين نزل ضيفا
وعانقني .. وعانقته بحرارة الشوق .
وحدي أعيش على إيقاع الوجع
أكتب شعرا
يصعد من أعماقي
يردد صدى قلبي
على نبض العبرات
الجارية على خدي
ولا من يفهمني
و يواسيني
أو يمسح ملوحة دمعي
ورعشات حزينة تلفني
فأتلعثم في حضرة من هويت و أهوى
و في حرمة الإحساس أزداد إعصارا إعصارا .
يا له من زمان ..حزينة أوتاره
متقلبة ..
عبثت بي في كل لحظات العمر بلا رأفة
إلى أن شحبت روحي
وصرت يتيما
أتمرغ في شجني
أبكي أيام زماني الضائع
خلف الأبواب ..
أناجي رب السماء
في خشوع
بهمس رقيق الحرف
وغيمة من دموع
تنسكب من مقلتي عيوني
تجسد وضعي
وأنا أحترق من شدة أوجاعي
و وحده الحنين يشدني
إلى هناك..
إلى عمق التاريخ
فأتوغل في غياهب الذاكرة
أبحث عن قمري
بين دروب الزمان
كضرير يتذوق جمال الألوان بلا بصر ..
ما أضيق دروب الحياة ..!
حين توصد الأبواب
في وجهك
وتختفي زرقة السماء خلف السحابة الهاربة
في الأفق ..
فتبقى وحيدا معلقا
بين وحدة الغربة والغياب .
آه … ! ثم آه ..!
حين أخذني الزمان من عمري
كان الكرنفال قد انتهى
ولم يبق مني إلا أن أحمل حقائبي
وأرحل ..
هذا ما تبقى لي ..
و يا لخسارتي .. !
ثمة بوح مازال عالقا في أدراج جعبتي
ثمة مزن مثقل به خزائن السماء
ثمة أسرار لم تكشف
بعد ..
تتعفن في سراديب الذاكرة
تنتظر لحظة الضخ في الشرايين
لتنفجر ساعة اندلاع نيران الغضب ..
ما أبشع الزمن
حين يلبس معطف التمويه
ويدير عجلة الأيام بألوان مزيفة.. !
كألوان الحرباء
آسف.. !
دعوني أقص عليكم حكايتي
أثقل سمعكم بمزيد من همومي
قبل ما يرميني الزمان على رصيف منسي
وأنتهي بلا موعد
في صمت الاحتضار .
دعوني أقص قصائدي على مقاسات الفوضى ..
وأثقل روحكم بمزيد من هواجس ..
سكنتني منذ صرختي الأولى .
دعوني أبحر هائما
بمجاديف كلها أحزان ..
دعوني أتأبط تابوتي و أنا أضحك ضحكة الوداع .
لقد سئمت العيش في زمان
أضحت الضحكة الصفراء
شعار المحبة بين السفهاء ..
...
...
كم هي ثقيلة هذه الحياة ؟
ملونة بكلمات تذبل وتموت
كل لحظة .
تسلبك حريتك
تلونك بألوان مزيفة
تقتل أحلامك بلا شفقة
فتضحى ..
مجرد ذكرى بلا رائحة .
الشاعر علال الجعدوني
مقاربة منهجية لقصيدة "حين يأخذني الزمان "
للشاعر علال الجعدوني
بقلم الناقد أحمد الزعيم
نشير منذ البداية أن زمن القصيدة ليس زمنا واحدا بل زمنا متعددا ومتشابكا وخاضعا لمنطق العلاقات المترابطة غير أنه زمن يتنوع ويختلف تبعا لنوعية الرؤية التي يجسدها فضاء النص المعنون ب "حين يأخذني الزمان"
و للتنبيه فإن الزمن عند الشاعر علال الجعدوني يكتسب طابعا دلاليا مشحونا العاطفة وانكسارات الذات ومكثف بالعمق في ترجمة الأحاسيس والوجدان والعواطف هذا يجعلني الإقرار بأن الحقيقة في النص هي المعاناة الوجدانية وهي حرارة الرومانسيين التي يبدو فيها الإنسان تلقائيا وعفويا حيث لا يتحدث عن نفسه فحسب وإنما يتحدث عن الإنسان وهذا ما يجعلني أقر كذلك أن النص يتضمن كثافة عالية تغطي مساحة كبيرة من المشاعر والعواطف والأحاسيس المنكسرة فهو فيض عفوي من الانفعالات القوية .
ومما يلاحظ على جسد القصيدة أن الزمن المرتبط بالماضي ضعيف وضئيل ويمكن أن نجمل إحصائيا عدد الأفعال الدالة على الزمن الماضي كالتالي حول .سكن كان .علق .نزل. هويت. عبث .صرت...)
بينما هيمن زمن الفعل المضارع بشكل لافت ، وجاء جد مكثف حيث أحصيت أزيد من أربعين فعلا بدلالة الحاضر والآني ، أما بنية الزمن المرتبط بالطلب أي الأمر والدعوة فلا يعدو أن يكون على رؤوس الأصابع لكنه ورد على شكل دعوة تتكرر من لدن الشاعر وهي دعوة قوية تتكرر وتتمثل في "دعوني" التي يكررها الشاعر تلاث مرات وهو الفعل الذي أعطى للنص قيمة إنسانية خاصة فالدعوة تقتضي من المتلقي أن ينتبه إلى هذه الدعوة المؤثرة بكل إصرار من الشاعر وبكل حرقة المطلب والدعوة ، يقول الشاعر :
دعوني أقص قصائدي
دعوني أبحر هائما
دعوني أتأبط تابوتي وأنا أضحك ضحكة الوداع
ففعل الطلب دعوني تكرر في القصيدة فجاء على شكل لازمة إيقاعية أكسب النص بعدا جماليا وموسيقيا وهو ما جعل الشاعر في مكانة الحكماء والفلاسفة وكبار المعلمين في الحكمة في التاريخ الذي يقصون ويحكون ويعطون الحكمة .والواقع أن فعل الدعوة" دعوني "يشكل بؤرة دلالية في النص وهي بؤرة تتسم بالتراجيديا وهي شبيه بعمل فلاسفة الإغريق في التعبير التراجيدي على خشبة المسرح في ترجمة المشاعر الأليمة والفواجع العظيمة وما دعوة الشاعر هنا على خشبة مسرح الحياة إلا لتفريغ الخزان الانفعالي والوجداني وقد ارتبط فعل دعا أربع مرات مرتبط بالحركة والإرادة ومثال ذلك :
دعوني أبحر
دعوني أقص
دعوني أقص ...متكررة
دعوني أتأبط تابوتي
وهي الدعوة التي كرست البعد المأساوي للشاعر خاصة عندما استحضر التابوت كي يتأبطه في حالة من الضحك . والواقع أن هذه الصورة جد متناقضة بين مطلب التابوت الذي يحيل على الموت والهلاك وبين حالة الضحك الذي ارتبط بالوداع وهي صورة مأساوية في تركيبها إلا أن بالرجوع إلى البنية العميقة للنص يتبين أن الشاعر يعيش حالة من الانكسار العميق قهرا وهي حالة أسطورية شبيهة بحالة كائن أسطوري غريب الذي يحمل موته بين يديه وتحت إبطه وما الضحكة إلا سلوك احتقاري لهذا الوجود واستنكاري لهذه الحياة القلقة من الناحية الوجودية..
إن بنية الزمن الآنية لها ما يفسرها ، فالشاعر في حالة من التأمل حول الذات وحول الواقع وهذا ينسجم مع النظرية الشعرية التي تقول بأن الشعر وصف وتفسير لهذا العالم بغرض تغييره وبذلك فإن البنية الدالة في نص "حين يأخذني الزمان " تساعد في فهم النص وما يحمله من دلالات وتصورات انفعالية ووجدانية وفلسفية .
إن البنية الدلالية لا توحي في النص فقط بعلاقة العناصر فيما بينها بل الانتقال إلى بنيات متحركة متكاملة تخضع لمبدأ الانسجام بنية دلالية مضمرة في قلب المجموعات البشرية وعلى هذا الأساس فإن الشاعر علال الجعدوني شبيه بذلك الفيلسوف وذاك الأديب الذي يحمل وجدان ومطامح وأمال الناس لذلك علينا مراعاة الانسجام الداخلي بين أجزاء النص وارتباطاته العضوية بمختلف العناصر التي تكونه أو العلاقات التي تربط جوهر المضمون ثم إننا نتمكن من فهم هذا العمل الشعري وتفسيره بمقدار ما نستطيع أن نبرز الرؤية التي تعبر عنها الصور الكلامية والحسية لهذا الأساس توخينا الإحاطة بمجمل النص لأنه نشاط إنساني وذهني له دلا لاته ثم إن فهم النص عملية فكرية تتمثل في تحليل علاقات النص الداخلية وترابطاتها وهو ما يفرض علينا منهجيا التعامل جزئيا مع النص كل النص ولا شيء غير النص ، وقد لاحظنا كيف أن الشاعر علال الجعدوني وظف بنية الزمن بما يعكس رؤيته التأملية حول ذاته القلقة والمغتربة والمكسرة وهذا العالم الحزين المشؤوم ودليلنا على ذلك ما ورد في بداية القصيدة من فعل البكاء "أبكي" وقد جاء مرتبطا بالزمان وبياء النسبة تأكيدا على أن البكاء منسوب للشاعر وهو مرتبط بياء النسبة والتي تعود كذلك على زمانه هو بالتحديد "زماني " مع أضافته لفعل آخر "أتجرع" وهو مرتبط تمام الارتباط بألم الشاعر و التجرع في المدلول النفسي يحيلنا على مرارة المشروب أي مرارة الألم ثم يضيف كذلك فعل البوح "أبوح" وهو فعل مرتبط بما يستبطنه الشاعر من فيض المعاناة الداخلية وتوهج الانفعالات والبوح هنا جاء بدلالة الإفصاح والتعبير عن المشاعر والأحاسيس بإرادة وخاطر وبحرية وصدقية فالشاعر يستبطن حرقة المعاناة والانكسارات ويود البوح بها لعلها عملية تطهيرية لذات الشاعر المنكسرة .
فالشاعر يبكي على زمن ملون باليأس والوجع منذ تحول هذا الزمن إلى حلم يرقص في شوارع الحياة وعلى وهم مؤلم ، هي الوحدة السيكولوجية لمظاهر الألم في النص ، والتي تصادفنا في مقدمة النص بدلالة ذات طابع شمولي لكنها تغرينا بمتابعة تفاصيلها عبر متواليات النص الحركية غير أن هذه الحالة مرتبطة بفعل "سكن" من السكون وهو تأمل استبطاني لذات لشاعر وما يعتريها من توترات وانفعالات تسكنه بقوة بتوهج داخلي عميق وما استحضار الشاعر لفعل "تسكنني " إلا دليل قوي على أن للمعاناة زمن تاريخي وهو ما جعل الشاعر يلتمس البوح والافصاح لعله يفرغ جانبا من معاناته الداخلية فسكون الشاعر بالأوجاع القديمة هو ما يجعل الشاعر يطلب أن يبوح بها لنقل تجربته للآخرين عسى أن يجد فيهم تعزية ومواساة وهو الوهم الذي انتاب الشاعر دون أن يتحقق على أرضية الواقع هذا الوهم الذي نزل ضيفا على الشاعر لكن دون أن يفصح عنه ليظل الشاعر مسكونا بحرقة الوجع يقول الشاعر :
وحدي أعيش على إيقاع الوجع
أكتب شعرا
يصعد من أعماقي
يردد صدى قلبي
على نبض العبرات
الجارية على خدي
فمعظم الأفعال دالة على الحالة المأساوية التي تعتري الشاعر وهو هنا يقدم لنا تفسيرا لما يعيشه ويشعر به من أوجاع . هذا الوجع الذي يترجمه إلى شعر وإبداع يصعد من أعماق ذات الشاعر المتوهجة بهذا الجرح الغائر وهذا
الأسى الذي يعتصر قلب الشاعر فتفيض عبراته ودموعه على خده وهي حالة بكائية مرتبطة بشدة الوجع وتأثيره . فالشاعر بحق يعيش وحدته وغربته دون أن يجد من يفهمه أو يواسيه أو يقدم له العزاء أو يمسح حتى دموعه التي تسيل على خده فترويه حتى تتسرب دموعه المالحة فيتذوقها بملوحتها وهي صورة تعبيرية صادقة يقدمها لنا الشاعر وهو ما يحيلنا على التجربة الإنسانية الصادقة التي اكسبت النص نضجا تعبيريا جد معبر عن تدفق معاني الحسرة والألم بأسلوب سلس ومرن قوي الدلالة .
ويزيد الشاعر في تفسير انفعالاته وانكساراته عندما يستحضر لنا رعشة الحزن والتلعثم في حضرة من يهوى ودون توضيح أكثر من الشاعر فهو يريدنا أن نستنتج نحن هذا الهوى الذي يزداد إعصارا ثم يمضي الشاعر في شرح أحواله مستنكرا هذا الزمان الذي عبث بأحواله دون رأفة أو شفقة حتى أصبح في حالة يتم وقهر متمرغا من الشجن يبكي خلف الأبواب يناجي رب السماء في خشوع وهو يردد همسات المناجاة والدموع تنسكب من مقلتيه وهو يحترق من شدة الوجع والحنين يشده بقبضته بحثا عن قمره ولعل كلمة قمر هي الوصف الوحيد الذي أحالنا عليه الشاعر مما يعطينا تفسيرا أن ما يوجع الشاعر ليس قمرا بالمفهوم الفلكي وإنما هو إشراقة الوجه ولمعانه وضياؤه وما يحيل على ذلك من صفات الجمال والنور الباعث على التوهج يقول الشاعر :
أبحث عن قمري
بين دروب الزمانة
كضرير يتذوق جمال الألوان بلا بصر.. .
ما أضيق دروب الحياة !
حين توصد الأبواب
في وجهك
وتختفي زرقة السماء خلف السحابة الهاربة
في الّأفق ...
فتبقى وحيدا معلقا
بين وحدة الغربة والغياب .
الشاعر يشبه نفسه بـ ضرير يبحث في زحمة الأشياء والمتاهات والدروب عن شيء بجمال اللون لكن بدون بصر وهو إحساس درامي واغترابي فكيف لفاقد البصر أن يتذوق جمالية اللون كضرير وهي مفارقة درامية وهو ما يجعل الشاعر يستنكر دروب الحياة حينما تضيق به وتصد في وجهه الأبواب وتختفي عنه زرقة السماء وهي صورة حزينة وغائمة ولنا أن نتصور زرقة السماء عندما تختفي وراء سحابة.
تدفعها الرياح والأعاصير إنها حالة سيكولوجية تعتري الشاعر فيقدمها لنا على هذه الصورة عندما تضيق به الحياة فلا جمال القمر ولا لون السماء الأزرق ولا هو قدر أن يتحسس جمال القمر ولا رؤية جمال زرقة السماء إنها حالة نفسية شديدة السواد والبؤس والتجهم ولعله يحيلنا إلى موت الوازع الإنساني وموت الإحساس بهذا العالم.
أن الشاعر علال الجعدوني بحق مفتون بالألم وقوة الانكسار يقول البياتي في هذا الصدد " لو لم يكن هناك موت لما كان الشعر ضرورة فالشعر نزوع للأبدي وهذا النزوع ارتداد و مضاد لوقتية الحياة التي يحيها الشاعر فالشعراء يعيشون آفاق الصدمات منا يجعلهم يعيشون موتاهم التي تحيا بها الكلمات وهي تقارع الواقع المأزم .والذات المنكسرة ولعل الشاعر علال الجعدوني قد عبر عن هذه الحالة أوثق تغبير حينما قال :
فتبقى وحيدا معلقا
بين وحدة الغربة والغياب
اه... ! ثم اه ... !
حين أخذني الزمان من عمري
كان الكرنفال قد انتهى
ولم يبق مني إلا أن أحمل حقائبي
وأرحل ...
هذا ما تبقى لي ...
و يا لخسارتي !
انه تغييب للذات بشكل قهري وهذا التغييب شبيه بأشكال الموت أو الإعاقة إنه شعور بالغربة والضياع في هذا الوجود القلق المرتبط بنهاية هذا العالم الحتمية والتي هي نهاية الإنسان والحياة إنه الرحيلة الوجودي لهذه الذات الشاعرة المغتربة في عالم الغربة والغياب يقول الشاعر :
لم يبق مني إلا أن أحمل
حقائبي
وأرحل
ولأننا نتذوق النص ونحلل دلالاته ومضمونه فإن الشاعر لم يقل لنا كل شيء ولم يرو ويحكي كل الاشياء فما زالت في جعبته ما يستطبنه من أوجاع وانكسارات وكأن ما وصفه غير كافيا فيزيد توضيحا وتعبيرا وترجمة لما يعتريه من ألم يقول الشاعر :
ثمة مزن مثقل به خزائن السماء
ثمة أسرار لم تكشف بعد
تتعفن في سراديب الذاكرة
تنتظر لحظة الضخ في الشرايين
لتنفجر ساعة اندلاع نيران الغضب
وكأن الشاعر يذكرنا بمقولة الضغط يولد الانفجار ، وكأن الشاعر على مقربة من أن ينفجر غضبا وهي ساعة الحسم والثورة الانفعالية ضد عالم هجين وهو عالم حربائي يلبس كمايقول الشاعر :
معطف التمويه وأشكالا مزيفة .
إن الشاعر يدعونا للاستماع ولقص حكاياته وهمومه قبل أن يطويها الزمان ويحتضر فهو يلتمس بلطف أن نعطيه فرصة الاستماع ليكمل بوحه ولعله ما زال يحمل بداخله ما يثير الدهشة والاستغراب لذلك تتكرر مطلبياته عبر أفعال تتكرر يقول الشاعر :
دعوني أقص الحكاية
دعوني أقص قصائدي
دعوني أبحر هائما
والتي هي دعوات لقص بقية الهموم والفواجع والانكسارات
فعندما يحكي الشاعر ، فإنه يشبه نفسه بالهائم في بحر من الأفكار والمشاعر والانفعالات المزدحمة والأفكار الملتهبة والشعور الموجع والغربة القاتلة والأحزان القوية ليلتمس منا في دعوة أخيرة تشبه عبارات الوداع الأبدي وهو يتأبط تابوته في حالة من الضحك هذه الضحكة التي هي في واقع الأمر صرخة ضد تجمد القيم الإنسانية وضد موت الوازع الإنساني فقد سئم الشاعر من زيف الحياة وسفاهة الإنسان ومكره .ليخلص الشاعر في نهاية القصيدة إلى رؤية مغتربة حول هذه الحياة الملونة بالزيف والخراب ودمار القيم وخرابها بعد أن استنفذ الشاعر كل طاقاته في الصدق و التغيير عن الحب والإخلاص في المبادئ والقيم ليجد الشاعر نفسه في آخر المطاف أمام هذا الخراب في الأخلاق والقيم .
فالنزعة التشاؤمية حاضرة بقوة في نهاية القصيدة ما دام أن الحياة وغدر الزمان قد قتل كل الطموحات وكل الأحلام هذه الحياة التي جعلته يعاني وحده إثر الغربة سواء مع ذاته أو مع عالمه الخارجي في ظل مجتمع عرف كثيرا من المتغيرات وتدمير كثير من القيم الإنسانية التي تربى عليها الشاعر كالصدق والمحبة والالتزام والتعاون والتآزر والتضحية والتساكن والتعايش والاحتفال بالحياة والشعور بقيم الجمال والرحمة بين الأفراد والجماعات وهي قيم بدأت تنهار وتضمحل بفعل سيطرة النزعة المادية التي تكرس علاقات قائمة على المنفعة والاستغلال بفعل هاجس تضخم الأنا وهو ما ساهمت فيه وسائل الإعلام الليبرالية المتوحشة التي أفرغت الإنسانة من محتواه الإنساني وشيأت المرأة حيث أصبحت بالتالي جزء من المنظومة الإعلامية الليبرالية المتوحشة ووسيلة من وسائل الدعاية للرأسمالية وهو ما جعل الإنسان مقذوفا في عالم متناقض لقيمه التي تشكل جزء من قيمه وثوابته التي تأثر بها وانطبعت مع تكوينه النفسي .يقول الشاعر علال الجعدوني ،كضرير يتذوق جمال الألوان بلا بصر،وقوله :
فتبقى وحيدا معلقا
بين وحدة الغربة والغياب
إن بنية الأسلوب تدل على فضاعه هذه الانكسارات فقد اعتمد الشاعر معجما لسنيا بدلالة التشاؤم والمأساة وقد عرف الشاعر كيف يختار مفرداته ومعجمه اللغوي الذي يعكس تجربته وانفعالاته فجاءت معظم الألفاظ تترجم الشعور بالانكسارات والغربة والقلق والشعور بالألم والأسى والمكر والمعاناة وكل أحوال الشاعر النفسية قد وضع لها الشاعر أفعالا وألفاظا تناسبها مثل أبكي .أتجرع .أبوح. يواسيني يمسح دموعي . تلفني أتلعثم ازداد إعصارا .أتمرغ .أناجي. تسكب. تجسد أحترق. يشدني .توصد أخذني .انتهى .ترميني .أرحل . تعفن . تنفجر .
وهي مفردات مناسبة لحالة الوجع وشدة المعاناة وحالة القلق والإحساس بالقهر والغربة وقساوة الزمن والدروب المغلقة في وجه الشاعر وهي حالات يكابدها الشاعر لوحده في زمانه .
والواقع أن بنية الأفعال الدالة على الوجع والقلق والغربة تكاد تعادل إحصائيا نفس عدد الأسماء في النص بنفس الدلالة والمعاني الدالة على الانكسارات والفواجع وهي مرتبطة بها بشكل عام وتبرز هذه الخاصية انطلاقا من الخطاطة التالية .
الزمان. يأخذ الشاعر
الألم يتجرعه
الخواطر يبوح بها
الظروف تحول إلى حلم
الضيف نزل
الدمع المالح يمسح
الرعشة حزينة
أوتار الزمان حزينة
الروح شحبت
خلف الأبواب
رب السماء أناجي
في خشوع
أتوغل في الذاكرة
زرقة السماء تختفي
انتهاء الكرنفال
البوح العالق
المزن مثقل
الساعة تنفج
نيران الغضب
عجلة الأيام
ألوان مزيفة
الحكاية وقصدها
النهاية بلا موعد
روحكم أثقل
هواجس تسكنني
مجاديف كلها أحزان
الضحكة الصفراء
الحياة ثقيلة
الحرية مسلوبة
الأحلام ثقيلة
ذكرى بلا رائحة ..
وكل هذا المعجم الاسمي له مضمون ودلالة واحدة وهو الشعور بالمأساة وترجمة هذه المشاعر والأحاسيس عبر سلوك وأفعال دالة وكأن الشاعر لا يعيش إلا في زمن الحركة والتحول حركة فعل الغربة والألم وتحول الحياة الاجتماعية إلى الزيف والمكر ..
إن الكتابة الشعرية عند الشاعر : علال الجعدوني تعمل على تكسير قواعد وآليات الكلام حيث نجدها فضاء مكثف بجمل تحمل حسا وجدانيا وانفعاليا ومأساويا وشحنة سيكولوجية لها ارتباطها بتجربة الشاعر في هذه الحياة وبذلك فإننا نجد أن لهذه الكلمات سواء أفعالا أو أسماء عالما وجدانيا منكسرا والقصيدة بحق كوحدة عضوية لها واحدة من النصوص الشعرية الإبداعية التي عمل الشاعر على خلق ما يسمى بالكتابة السردية التعبيرية الوجدانية حيث نجدها كنوع من المغامرة التي حاول الشاعر من خلالها تحطيم كل القيود الكلاسيكية وتحطيم كذلك كل العلائق اللغوية المغلقة في الكتابة الشعرية فطبيعة اللغة في النص "يأخذني الزمان" تلغي كل ترابطاتها البنيوية للغة أي نص قديم باستثناء لفظة واحدة وهي" سئمت" والتي تحيلنا على قصيدة "تعب كلها الحياة " للشاعر زهير بن أبي سلمى والتي مطلعها كلمة "سئمت " وهو ما يوحي لنا أن الشاعر قد نهل من معين الشعر العربي القديم .
من هنا يمكن القول أن النص بنية تعبيرية وأسلوبية لها حركتها الداخلية فاختلاف المقاطع صوتيا واختلاف الجمل على مستوى الطول والقصر مرده الى البعد النفسي والدفقة الشعورية للشاعر تلك الحركة النفسية الدقيقة التي تؤثث وترصص بنيات الجملة الشعرية كما لو أنها تتضمن موسيقى خفيفة تدب بين كل حرف وكل كلمة فتضفي عليها نغمة تعبيرية ومدلولا وهو ما يثير فينا لذة شعرية في كل حركة نفسية وإيقاعية وأسلوبية خاصة وأن الشاعر يعتمد على أسلوب السهل الممتنع المشحون بالانفعال وتضخم الذات انكسارا وهي حركة سيكولوجية قادمة من تفجرات أعماق الذات ذلك أن للحروف والكلمات حركة صوتية تتيح للشاعر علال الجعدوني أن يركض على بساط القصيدة بشكل انسيابي أكثر تفصيلا وتأصيلا في الخطاب النثري الشعري .
ان الكتابة عند الشاعر علال الجعدوني من خلال هذا النص تحلق فيما وراء اللغة لأنه يؤسس خطابا فوق خطاب ولغة فوق اللغة العادية رغم عفويتها و طلاقتها لأنها مشحونة بالأنا وبالأشجان والأحزان كنهر متدفق وقد فاض على كل جوانبه وضفتيه لأنها مرتبطة بالأعماق فأنماط التعبير عند الشاعر علال الجعدوني لا تدخل في علاقة مع الظواهر المادية كما قد يبدو للبعض عند القراءة السطحية بل ترتبط بالطاقة الليبيدية والإدراكية والجمالية والتعبيرية والنفسية باعتبار أن الشاعر يجد نفسه واقفا أمام عالم مشحون بالغربة والمكر والخداعة والقلق واقفا أمام ذاته يستبطنها في ظل تنكر الآخر يستفسرها ويترجم حركاتها الداخلية لغة تعبيرية بكل عفوية وتلقائية وأن تفسير عالمه وتحويله لا يتم إلا من خلال رؤية نافذة وشعور ثاقب من خلاله يرى ويتأمل ويحكي ويقص ويدرك في لحظة من لحظات التداعي ليس باعتماد وحدات تعبيرية وأسلوبية بذاتها بل من كذلك ينبع هذا التداعي من طبيعة حركتها الباطنية المثقلة بالأشجان والأحزان..
والواقع أن النص الذي بين أيدينا يثير فينا كثيرا من الدهشة والاستغراب لما يتضمنه من أدوات تعبيرية وفنية كالصورة الشعرية وبنية السطر وبنية الجمل وبنية الضمير وبنية الإيقاع وحركة الصورة وهي بنيات عرف الشاعر علال الجعدوني كيف يؤسسها ويقدمها بكل عفوية وتلقائية وهو ما اكسب النص بعدا جماليا وتأثيريا مفعما بالدينامية والحركة النفسية العميقة وهو ما جعل النص بنية مترابطة تشكلها جملة من الترابطات الدلالية غير أن هذه البنية لا يمكن أن تفهم من مغاليقها ودواخلها إلا إذا ارتبطت بالمجال السوسيوثقافي والتاريخي باعتبارها بنية أوسع وأشمل وبذلك نكون قد انتقلنا من فهم النص إلى تفسيره . من هنا نخلص أن رؤية العالم عند الشاعر علال الجعدوني من خلال هذا النص رؤية مأساوية كما تحيلنا هذه الرؤية إلى جانب مهم من شخصية الشاعر المتشبت بالقيم الإنسانية وبالمبادئ السمحة التي أسست هويته بالحب والخير والسمو والكرم والتضحية والصبر والتعاون والتساكن والتراحم بين الناس وهي خصائص ثقافية وسلوكية وروحية طبعت الإنسان العربي ليصطدم بحمولة من الثقافات والسلوكيات العدوانية تجاه القيم التي تربى عليها الشاعر وهي سلوكيات لا إنسانية بدأت تطبع عصرنا بالظلم والحقد وسيادة الأنانية والعدوانية والغدر والمكر في زمن بدأ الإنسان يفقد فيه إنسانيته وحريته وكرامته وانتابه كثير من القلق والضياع والويلات وهي الظواهر التي تفسر كون النثر الشعري مجالا حيويا عبر من خلاله الشعراء عن تجاربهم وهو ما عمق تجربة النثر الشعري وتعتبر قصيدة الشاعر الجعدوني حين يأخذني الزمان والتي أخذت كتيمة لديوان الشاعر كواحدة من أبرز قصائد النثر الشعري في تطوره الأسلوبي والشعري في الوقت المعاصر والتي هي فيض عفوي من المشاعر القوية وهي سمات جل قصائد الشاعر الوجداني والغنائي وقد استعمله العرب القدامى من وقوف على الأطلال وندب للديار..
تعليقات
إرسال تعليق