لذَّة للشاربين..!! نورالدين بنصالح زرفاوي/ 8 يونيو 2022.




 لذَّة للشاربين..!

  -   لا طبيب غير الله سبحانه وتعالى..

   قالتها جدتي الضريرة بيقين تام، وبخشوع عميق.. وبعد صمت وجيز، استتلت برجاء :

  -    اللهم يا ربي لا تحرمنا بركة أوليائك الصالحين..

   ثم مسحت دموع عينيها بكفها المعروقة، وانهمكت في دعواتها، معلنة بذلك نهاية جدال ساخن جرى للتوّ بينها ووالدي حول جدوى زيارة طبيب عيون بالمدينة، بدل زيارة قبة ولي صالح قد غذت عظامه البالية تحت التراب رميما..

  محرك السيارة يدوي بقوة وبعنف يستهزئ من الطريق الممتد أمامنا إلى ما لا نهاية، وعجلاتها تسلخ الإسفلت بلا هوادة.. جدتي تمسك بين يديها عكازها لا تفارقه لحظة، وكأنها تخاف ضياعه.. لسانها رطب بالتضرع إلى الله، والتوسل إلى أوليائه الصالحين.. أما أنا، فجالس إلى كتف والدي المنهمك في السياقة.. تارة أرقبه، في حب استطلاع طفولي، كيف يتعامل مع عجلة القيادة.. وتارة أخرى أسبح  بناظري في الخلاء الشاسع من خلال زجاج النافذة.. الشمس تعتلي عرش السماء، ترسل أشعتها الدافئة على المروج وقد ازّيَّنت بحلة الربيع.. من خلال الواجهة الخلفية، الأشياء تأخذ في لحاق مستميت إلى الوراء.. ومن الأمامية، تطلّ علينا المدينة العجيبة أخيرا ببناياتها الشاهقة.. كم تمنيت حينها لو ترجح فكرة والدي، فتتاح لي زيارتها المنتظرة..  إلاّ أن السيارة خفضت من سرعتها، ومالت بنا تأخذ في مسلك ترابي يهبط ملتويا في منحدر حادّ.. فاختفت المدينة واختفت كل معالمها، وكأن الأرض قد ابتلعتها فجأة.. لكن كنا نحن الذين نغوص في جوفها السحيق..

  المسلك يلتوي بين الصخر وشجيرات" السدرة" المشوكة، فيتطاير الغبار من ورائنا سحبا كثيفة تحجب الرؤيا. ومن حولنا، وعلى امتداد البصر، لا طير.. لا بشر.. ولا شجر.. فقط نبات "الدوم" و"السدرة" والحصى والحجر..  فكرت: " لربَّ السماء من فوقها أمطرت – في غابر الأزمان- حصى وحجرا " ..

     سألت أبي، وقد تذكرت أنه قد ضاعت عليه فرصة سانحة للخروج في جولة قنص ممتعة كعادته كل يوم أحد:

    -   هل يوجد وحيش في هذا الخلاء؟..

           أجابني، وهو يخفض من سرعة المحرك:

    -   لا يا ولدي.. هذه بلاد الأفاعي..

           تمتمت جدتي:

    -  ليحفظك الله يا ولدي..

  لذكر الأفاعي، انقبضت رجلاي رغما عني .. وحينما كادت السيارة تتوقف نهائيا وهي تهتزّ بنا جرّاء بعض الحفر في الطريق، التصقت بجدتي كقط صغير مذعور.. لكن السيارة ما لبثت أن انطلقت من جديد لا تلوي على شيء، فعادت إليَّ طمأنينتي.. كما شعرت بسرور لذيذ يغسلني من الداخل، ليس لأني سأرى قبة الولي الصالح التي انبجست بالقرب منها عين سلسبيلا تجري بماء معين.. لذةً للشاربين.. ومن كلّ داء، شفاءً لكل عليل وسقيم.. وإنما لأن الزيارة ستتيح لي الهروب – ولو مؤقتا -  من سجن الكتّاب، وصرامة "الفقيه"..     

  رست بنا السيارة أخيرا في عمق واد عريض غير ذي زرع.. حيث نصبت الخيام، وتوقفت العربات، والشاحنات، والسيارات.. وحيث اختلطت الدواب وبني البشر سواء بسواء.. حول الينبوع،أبصرت جمهورا غفيرا يملأون الأواني من المياه التي تنساب رقراقة على وجه الأرض بغير حساب.. فيغسلون منها أيديهم ووجوههم تبركاً، ويشربون منها شرب الهيم،.. فهي، على حد قول القائلين، تقضي على "التوكال"، والاغتسال بها يبطل مفعول السحر و"الديار". فكّرت في الأمر مليّاً، لكني لم أفقه لتلك الأقاويل معنى.. وعندما استفسرت جدتي، نهرتني قائلة: 

- وما يدريك يا ولد؟.. ذاك شغل النسوان".. 

 فلزمت الصمت..   

 كان هناك حضريون أيضا.. أدركت ذلك من أزيائهم الأنيقة المتميزة، وبشرة وجوههم النظيفة الوضاءة، ومن طريقتهم في المشي والكلام.. هم كذلك أتوا ليتبركوا من مياه تلك "العين".. إنهم مثلنا تماما.. يطلبون، ويتبركون.. أناس بسطاء متواضعون!!..

  وعندما ارتوت جدتي من الماء الزلال، أمرتني أن أقودها إلى قبة الولي الصالح الغارق في صمته الأبدي.. كرهت المكان.. منه تشتم رائحة الموت والعدم.. تمسحت هي، في تذلل، بحجر قبره.. تضرعت إليه بالدعاء، آملة أن يعود إليها بصرها كأيام زمان، فتبصر الأرض والسماء، والشمس والقمر، والحجر والشجر، والحيوان والبشر.. ترى وجوه أبنائها وكيف أفسدها الدهر. وتتعرف إلى أحفادها الذين تكاثروا ولا تكاد تعرف عنهم إلا أسماءهم، ونبرات أصواتهم.. تبصر لكي تتحرر من قبضات أولئك الذين يقودونها بالنهار كما بالليل، فترمي عكازها، أو تكسره.. أو تحرقه حتى، فيتحول إلى رماد..

   وفي ختام الزيارة، ونزولا عند رغبة جدتي، ملأ والدي آنية كبيرة من تلك المياه المباركة، ذاق منها كل أهل "الدوار" وساكنته.. حتى "الفقيه" نال نصيبه منها غير منقوص.. فجرع منها جرعات لا بأس بها، مدّعياً أنه أصبح يشكو من آلام في معدته التي لم تعد تتحمل طعام الولائم كما من قبل. في حين، دأبت الجدة تشرب منها صباحا على الريق، وتأخذ منها بضع قطرات في كل عين كلما جنَّ الليل، آملة أن ينجلي ليلها الطويل.. 

  من أقصى البلدة جاء رجل يسعى ذات صبيحة.. قيل بأنه شيخ القبيلة.. فحشر ونادى: " أن يا عباد الله..  إن مياه تلكم "العين المباركة" ما هي سوى مياه المدينة العادمة، وقد طفت إلى السطح بعد أن امتلأت بها جيوب الأرض، فلا تقربوها بعد اليوم!!".. ثم ولى مدبرا، وهو يصيح محذرا:

     -    لقد أعذر من أنذر..

 بذلت جدتي جهدا كبيرا، وهي تتلمس طريقها نحو ما تبقى لديها من ذخيرة تلك المياه المشؤومة، ثم أفرغتها على التراب.. أما "فقيه دوارنا"، فإنه لم يرفع الآذان، ولم يؤم المصلين لأربعة أيام متتالية، نظرا لحالته الصحية التي  تدهورت بشكل ملحوظ.. 

نورالدين بنصالح زرفاوي/ 8 يونيو 2022.

تعليقات

في رحاب عالم الأدب..

سي محمد خرميز أيقونة من أيقونات المدينة الفوسفاطية.. بقلم عبد الرحيم هريوى الدار البيضاء اليوم/المغرب

عزيزة مهبي؛ المرأة الفوسفاطية بخريبكة ، العاشقة لمهنة التعليم على السياقة، وسط الكثير من الرجال..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

ماذا أصابك يا إعلامي زمانه و يا جمال ويا عزيز الصوت واللحن..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

العين التي أعطت ضربة الجزاء للفتح الرياضي بدون الرجوع للفار هي العين نفسها التي ألغتها بنفس القرار بعدما شوهد الفار- بقلم الكاتب الفوسفاطي /:عبد الرحيم هريوى

"السوليما" الإفريقية بخريبكة بين قوسين..!ومحمد درويش يقول على هذه الأرض ما يستحق الحياة..!! عبد الرحيم هريوى..!

كلمة عن بعد ؛ عبر العالم الافتراضي كمشاركة منا في حق تكريم أستاذ لغة الضاد الأخ مصطفى الإيمالي بالثانوية التأهيلية عبد الله بن ياسين بٱنزكان - عبد الرحيم هريوى

ياسين بونو توأم لبادو الزاكي حارس مايوركا في زمانه..!! بقلم عبد الرحيم هريوى