الأب ..قصة قصيرة بقلم الروائي نور الدين الزرفاوي بن صالح خريبكة - المغرب
قصة قصيرة
بقلم الروائي
نور الدين الزرفاوي بن صالح
خريبكة - المغرب
كم كنت أتمنى أن تحدث معجزة تحول دون زيارة السيد "عبده" (الحارس العام) إلى فصلنا.. غير أن دفة الباب انفرجت، ودخل السيد "عبده" مستعجلا كالعادة.. وقفنا له احتراما.. ألقى التحية.. تكلم بداية إلى الأستاذ "كيران" (أستاذ اللغة الفرنسية)، قبل أن يلتفت إلينا وينادي :
- "نور"
من أقصى القاعة، وقفت نحيلا، مستقيما، صامتا :
- هيا.. أنت مطلوب لدى الإدارة!..
أودعت الكتب والأدوات محفظتي، وغادرت القاعة تحت نظرات أستاذنا الفرنسي المتأسفة، وهمسات ولمزات أصدقائي التلاميذ المستهزئة ..
في الإدارة، أبلغني السيد "عبده" بأنني مرفوض، بسبب قلة انضباطي وكثرة غيابي، حتى إشعار آخر.. مطرود حتى حضور والدي.. كالمرّات السابقة، حاولت أن أبرر غيابي.. لكن هذه المرة عبثا حاولت أمام إصرار السيد "عبده" ..
لفظتني بوابة الإعدادية، فتهت على وجهي.. أجتر خيبتي.. أتسكع بين الأزقة والشوارع.. لا شيء يثير انتباهي، ولا حدث يستثير فضولي.. والدي يعود من العمل أشعث، أغبر ينشد راحته.. يتناهى إليه الخبر السيء.. تتلاشى بسمته المألوفة، لتحل محلها خيبة أمل فظيعة.. أمي إن سمعت بالنبأ الخطير، فأكيد أنها ستولول ثم ستبكي بحرقة.. أما إن علمت بإدماني على قاعات السينما على حساب المدرسة، فسيؤتى بها - على عَجَلٍ - محمولة على الأكتاف.. ليس إلى مقر الإدارة، وإنما إلى قسم المستعجلات بالمستشفى..
كلا!.. يستحيل أن أخبر أيا منهما !..
انتهى بي المطاف أخيرا في الحي الفرنسي (الفيلاج)، وقد أخذ مني التعب مأخذه.. المكان ينعم بهدوء لذيذ.. أشعر بالسكينة والطمأنينة، فأنسى ورطتي مؤقتا.. أتسلى بالنظر إلى "الفيلات" الأنيقة ذات الهندسة الرائعة.. أسطح موشاة بالقرميد الأحمر، ومحدودبة كظهر البقر.. تعلوها مداخن حجرية.. على إحداها يقف لقلاق- جنب عشه- على ساق واحدة، راخيا جناحيه في كسل، ينعم بأشعة شمس ربيعية دافئة.. حدائق ظليلة تغمرها زقزقة العصافير، وهديل الحمام.. هنا يسكن علية القوم.. نبهاء المنجم وسادته.. إنهم حقا في نعيم مقيم.. أتلصص بناظري إلى ما وراء أسوار حدائقهم، عساي أقتبس من نورهم ..
آخذ في شارع عريض.. على جانبيه صفان متوازيان من نخيل صنوان وغير صنوان.. عربة مربوطة إلى حصان جاثمة هناك أمام باب إحدى الفيلات.. من أعلى النخلة يتدلى عنقود بلح.. لونه الذهبي يسيل له لعابي.. أهزُّ جذع النخلة عساه يتساقط علي رطبا.. لكن عبثا حاولت.. أبحث عن حصى أرميه بها، لكن عبثا بحث.. أزيل فردة حذائي وأرمي بها عنقود البلح.. تنفرط حباته فتتناثر أرضا، لكن فردة حذائي تأبى إلاّ أن تظل عالقة هناك.. أهم بتسلق النخلة، فينطلق نباح كلب مسترسل حاد من وراء سور الفيلا.. ومن بابها يخرج كهل في عجلة من أمره، بيده عصى يتدلى من رأسها سوط غليظ ..
- أنت هناك!.. ماذا دهاك؟..
صوتي ينحبس في حنجرتي، فلا ينطلق.. أكتفي بالنظر إلى أعلى النخلة حيث تتربع فردة حذائي اللعينة.. يتقدم الرجل بخطوات ثابتة، وبعصاه يسقطها أرضا بسهولة.. أضعها في رجلي، وأهم بالانسحاب من مسرح "الجريمة".. وجها لوجه، يتفحص هندامي والسوط يتدلى من يده :
- أنت لست من أبناء الحي.. ماذا تفعل هنا؟
مرتجفا، أجيب :
- إني عائد من المدرسة..
- المفروض أن تكون الآن في المدرسة.. إننا في بداية النهار، ولسنا في نهايته.. أليس كذلك؟..
أهم بالانسحاب ثانية، لكنه يستوقفني:
- ولكن، ألا تساعدني كما ساعدتك؟..
ألج الباب العريض وراءه.. يستقبلني الكلب الشرس بنباحه المسترسل.. لحسن الحظ كان مربوطا بإحكام.. طول الممرات أزهار وورود، وأشجار ليمون دانية قطوفها.. أرجوحة تتوسط الحديقة، ولعب للصغار مبعثرة فوق بساط العشب الأخضر.. سيارة فارهة داخل مرآب يتسع لأكثر من واحدة.. تذكرت دراجتنا العجوز، ومعها طفا طيف والدي فجأة، فتذكرت ورطتي.. انخرطت في العمل المضني المجاني بكل جهدي عساي أنسى مأساتي.. أنقل المهملات، والمتلاشيات من الداخل لأضعها في العربة..
انتهينا من العمل، وامتطى الرجل عربته يستعد للانطلاق.. حذوت حذوه، وجلست إلى جنبه دون أن يطلب مني ذلك.. جسمه يتفصد عرقا، فيفوح رائحة أزكمت أنفي.. أخذ السوط وهش به على الدابة.. تحركت المسكينة تجر عربة متهالكة تئن تحت ثقل الحمولة، فتحدث صريرا.. وحوافر الدابة تضرب على الإسفلت فتعزف سمفونية حزينة. ونحن نسير باتجاه الضواحي لنفرغ الحمولة، كنت سارحا ببصري في الأفق البعيد عندما انتشلني صوت الرجل من عالمي متسائلا :
- اسمك؟..
- " نور" ..
تنهد بعمق، ثم أغرق في صمت ينمُّ عن حزن دفين.. في حين، لم أبد أنا أدنى رغبة في الحديث إليه.. كان همي الوحيد أن أظل في عالم النسيان، وأن أبتعد عن كل ما يذكرني بورطتي. لكن الرجل عاد يقول:
- اسمعني يا بنيّ.. لو كان لي ولد في مثل عمرك ، لحرصت أشدَّ الحرص على تعليمه ..
ها هو ذا يذكرني بمأساتي.. لعنته من الأعماق..
- فينجح ويحصل على وظيفة بإدارة المنجم، وينعم بما ينعم به هؤلاء..
كلامه ضرب من الهذيان، والأمر لا يعنيني أنا في شيء..
تفقد الدابة بسوطه وهو يقول:
- ولن أسمح له أبدا بأن يرث عني الدابة والعربة..
وبعد صمت وجيز:
- هل رأيت السيارة، والمنزل، والحديقة؟..
تناول قنينة ماء ملفوفة في قطعة من ثوب مبلل، وصبّ منها في جوفه:
- أما الزوجة..
هنا فقط لاذ بالصمت، وكأنه قد تذكر بأنه يحاور مجرد غلام في سنّ ابنه..
ناولني القنينة وهو يقول:
- خذ يا بنيّ.. اشرب.. لقد بذلتَ جهدا كبيرا..
بنيّ؟؟.. بنيّ !!.. هنا فقط، خطرت الفكرة ببالي.. فكرة الخلاص.. أمعنت النظر في وجه الرجل.. إنه في مثل سنّ والدي.. ماذا لو طلبت منه أن يقوم بدور "الأب" أمام السيد "عبده"، عساي أنجو من ورطتي؟..
قلت له بنبرة بها حزن مفتعل:
- لقد طردت من المدرسة هذا الصباح حتى حضور والدي.
حدجني بنظرة مستفسرة، فاستطردت موضحا :
- وأبي لا يمكنه الحضور..
- وهل أخبرته بذلك؟..
- ازدردت ريقي، وأجبت باقتضاب:
- لا.. أكيد هو لن يحضر..
- أين يشتغل أبوك؟..
- بعيدا.. بالمنجم..
- قال باهتمام بالغ :
- حسنا.. ولماذا طردوك ؟..
- تغيبت البارحة ..
- ولماذا تغيبت البارحة؟..
- ألمَّ بي مرض مفاجئ ..
تفحص ملامحي بإمعان.. ولا شك أنه استشفَّ كذبي، ثم قال:
- نعم!.. حقا!.. إني أرى بعض الشحوب على وجهك.. ولكن هذا لن يمنعك من الذهاب إلى المدرسة..
ثم وهو يهش بالسوط على الدابة :
- هيا بنا.. لنذهب، ونرى..
شعرت بالثقل الذي كان يجثم على مشاعري ينزاح فجأة.. لكن أمام بوابة المؤسسة شعرت بخوف رهيب.. ماذا لو انكشفت الخطة؟.. ماذا لو لم تنطل اللعبة على السيد "عبده"؟.. لاحظ ترددي، فأمسك بيدي بإحكام، وكأنه يخاف أن أفلت منه.. باليد الأخرى كان يمسك بالسوط.. كان مندفعا كثور هائج حتى لأني كنت أجد صعوبة لأجاريه في مشيته.. ونحن نلج باب الإدارة، ظلَّ يخاطبني بأعلى صوته:
- إنني أكد طول النهار لكي تدرس وتنجح، لا لتتغيب.. أيرضيك ما أنا عليه الآن؟ ..
شدت إلينا الأنظار من كل جانب.. بداية موفقة.. ممثل بارع يجيد دوره..
بين يدي السيد "عبده"، أقف حانيا رأسي.. قلبي يكاد ينطُّ من قفص صدري.. "الأب" إلى جنبي.. السيد "عبده" يتفحص هندام "الأب" وقد أبدى اتجاهه تعاطفا واضحا.. استقر نظره علي أنا أخيرا.. قال :
- والآن.. ألا تخجل من نفسك؟.. أيرضيك أن ترث العربة عن أبيك؟..
صاح "الأب" مستنكرا:
- كلاّ !.. أبدا !.. لن أسمح له بذلك..
في اللحظة نفسها، لم أدر إلا والسوط يلسع ظهري بقوة.. أصرخ من الألم.. يسرع السيد "عبده" من وراء مكتبه فيحول بيني وبين ضربة ثانية.. الألم يسري في أوصالي.. كدت أصرخ في وجهه بأعلى صوتي:
- إنني لست ابنك لتضربني هكذا.. أنت لست أبي ..
لكنني فضلت أن أتحمل ألم السوط، بدل أن يفتضح أمري..
نورالدين بنصالح زرفاوي / المغرب.
13/7/2022
السيد عبدو رحمه الله بثانوية مولاي رشيد كانت لنا معه ذكريات في حرب الإدارة كان نعم الرجل صارما
ردحذف