الأمير ..!! قصة قصيرة بقلم الروائي نور الدين بن صالح الزرفاوي


 الأمير   ..!!
 إنه ليس أمير "مكيافييللي".. ولا هو أيضاً سليل عائلة ملكية عريقة..  سموُّ أميرنا حدودُ إمارته لا تتعدى وسط أسرته الصغيرة.. أسرة قروية متواضعة، لا تعرف - بل لا تكاد تسمع - عن حياة الأمراء سوى أنهم يحيون حياة الرفاهية، والهناء، والدلال.. 

   يوم وضعته أمه أغمي عليها من فرط فرحه بمولده، رغم الآلام التي تكبّدتها طيلة فترة الحمل الشاقة وأثناء الولادة العسيرة.. وفي ليلة عقيقته، عندما رتَّل الفقيه الآية الكريمة بصوت رخيم: " فلمَّا وضعتها قالت ربي إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى"، هتف قلب الأب بالحمد والشكر لله، وفرحا وسرورا اغرورقت عيناه.. في حين لم تلتقط أذناه سوى الكلمات الثلاث الأخيرة من الآية.. متخشّعاً، ردّدها مرارا في نفسه حتى ترسّخت في وجدانه.. ومن يومه ذاك دأب يتلذذ بتلاوتها في خلوته.. كما صار لا يتوانى في ترديدها بنبرة لا تخلو من مباهاة وتفاخر أمام أقربائه وأصدقائه: فهذا الوليد، الذي جادت به - بعد يأس وقنوط - رحم لم تلد إلا البنات، هو الخليفة المنتظر.. هو حامي الأرض، والذائد عن العرض، وضامن استمرار الأصل والفصل بعد الرحيل الأبدي.. من يومها أحيط الصبيُّ بعناية فائقة، وحبّ شديد، وحنان مبالغ فيه.. فأصبح الجميع يناديه تدلّلا ب"الأمير"، حتى صار اللقب لصيقاً به.. وحتى غذا هو لا يعرف له اسماً آخر غير "الأمير".. 

  تبوّأت الأم مقعدها وسط الغرفة الصغيرة محاطة بالقريبات والصاحبات.. تستقبل الزائرات، يباركن لها ويهدينها الهدايا بالمناسبة الغالية.. دراهم معدودة.. في حجرها يجلس "الأمير" مرتديا جلبابا أبيض.. غارقا في براءته، غافلاً عمّا يجري حوله.. تارة يلهو بفردتي بلغته الصفراء، وتارة أخرى يعبث بالخيط المتدلي من أعلى طربوشه الأحمر المطرز بخيوط ذهبية اللون.. في عنقه تدلَّت "خميسة" درءً لكل عين لامة.. رغم بساطة المشهد وتواضع الهندام بدت المرأة راضية مرضية، جليلة كملكة يوم تتويجها..

  غرف البيت كلها غاصة بالمدعوَّات يردّدن الأهازيج الشعبية، ويحتسين الشاي.. في حين، وغير بعيد من البيت الصغير، نصبت خيمة مترامية الأركان تستقبل المدعوين من الرجال.. نهارا يتلى فيها الذكر الحكيم، وليلا ستتردد فيها الموسيقى وتصدح خلالها حناجر "الشيخات" بالأغاني حتى مطلع الفجر..  

    توقفت أمام البيت عربة يجرُّها حصان هزيل، فترجّل من على متنها فيلق من الأطفال والنساء وقد أخذن زينتهن.. جئْن مسلّحات بالدفوف وبالأعلام.. وما أن وطأت أقدامهنّ الأرض حتى أعلنّها رقصة حامية الوطيس، انضمَّت إليها كل المدعُوّات..فاشتدّت المنافسة، وتعالت الزغاريد والأهازيج والضرب على الدفوف، حتى غطّت على تراتيل الفقهاء.. كما تمايلت فيها الأجساد راقصة تحت أشعة شمس صيفية لاهبة رغم بداية الصباح.. فنضحت الأجساد عرقا، وعرقا تصبّبت الجباه.. أما الزوّار من الأطفال، فما لبثوا أن انضمّواْ إلى أقرانهم المحليين وانصهرواْ معهم، مشكلين بذلك فريقا يبثُّ الفوضى والضوضاء في كل مكان..  

  كان الأب قد شمَّر على ساعديه منذ الصباح الباكر، فساعد الجزّار على ذبح عجل سمين على شرف المدعوات والمدعوين الذين حجُّوا من الجهات الأربع للقرية.. 

   ومن أقصى القرية، جاء "الحجام" العجوز متأبطا كيسا قديما به أدوات عمله.. لرؤيته عوى الكلب بشدة، وانتفض في مرقده بقوة حتى كاد القيد الحديدي ينكسر حول عنقه.. اقتيد العجوز إلى غرفة أُخليت من النساء على عجل، فصمتت الأهازيج مؤقتا وعمّ صمت ثقيل.. أسرعت إحدى القريبات، فجاءت بديك - فحل الدجاج - مكتوف الرجلين، وبصُرَّة بها تبْن يغطي بضع بيضات.. وضعت الكل أمامه.. تفحص الغنيمة بنظرة خاطفة.. حينها فقط أخرج معدّات عمله، وفرشها أرضا على مرمى يده: قارورة تحوي سائلا أحمر، وأخرى بها غبرة بيضاء، وقطعة من قطن، ومقصّاً قديما يبدو أنه قد شهد ختان كل أطفال القرية الذين غذوا الآن أزواجاً وآباءً.. ثم جيء ب "الأمير" إلى ظهر أمه، في موكب من النساء والفتيات على إيقاع الزغاريد والصلاة والسلام على رسول الله..  بين منْبهرٍ وخائفٍ، استمسك مستنجدا بتلابيب أبيه.. أُجلِس أرضا قبالة "الحجام"، ثمّ فرجت فخذاه إلى أعلى، فشُلّت حركته.. صرخ باكيا لا يدري ماذا يراد به.. أشرّ هو أم خير؟.. اختلط بكاء "الأمير" بصياح الديك، وبعواء الكلب المسترسل في الخارج.. بأصابع يابسة متعظمة أمسك "الحجام" بناصية شيئه الصغير. وبيد ترتعش أخذ المقص، وبسْمل.. جزع الأب عندما رأى اليد لا تكف عن الارتعاش.. انتفض "الأمير" كصفور مهيض الجناح.. أمام باب الغرفة، تعالت الزغاريد والصلاة والسلام على الرسول الكريم من جديد.. همس العجوز للطفل بصوت كالفحيح، وهو يشير إلى الأعلى: 

                -  أنظر.. هناك عصفور جميل.. 

  سكت "الأمير" وهدأ روعه.. وبنظرات بريئة زائغة تطلّع إلى الأعلى يبحث عن العصفور الجميل المزعوم.. لكنه ما لبث أن صرخ من الألم الفظيع ينتابه بين الفخذين.. بحرقة بكى... ولا يزال يبكي.

نورالدين بنصالح زرفاوي 

6/4/2022

تعليقات

في رحاب عالم الأدب..

سي محمد خرميز أيقونة من أيقونات المدينة الفوسفاطية.. بقلم عبد الرحيم هريوى الدار البيضاء اليوم/المغرب

عزيزة مهبي؛ المرأة الفوسفاطية بخريبكة ، العاشقة لمهنة التعليم على السياقة، وسط الكثير من الرجال..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

ماذا أصابك يا إعلامي زمانه و يا جمال ويا عزيز الصوت واللحن..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

العين التي أعطت ضربة الجزاء للفتح الرياضي بدون الرجوع للفار هي العين نفسها التي ألغتها بنفس القرار بعدما شوهد الفار- بقلم الكاتب الفوسفاطي /:عبد الرحيم هريوى

"السوليما" الإفريقية بخريبكة بين قوسين..!ومحمد درويش يقول على هذه الأرض ما يستحق الحياة..!! عبد الرحيم هريوى..!

كلمة عن بعد ؛ عبر العالم الافتراضي كمشاركة منا في حق تكريم أستاذ لغة الضاد الأخ مصطفى الإيمالي بالثانوية التأهيلية عبد الله بن ياسين بٱنزكان - عبد الرحيم هريوى

ياسين بونو توأم لبادو الزاكي حارس مايوركا في زمانه..!! بقلم عبد الرحيم هريوى