غليمة ((راحلة...!!؟؟)) قصة قصيرة عبد الرحيم هريوى



   غليمة ((راحلة...!!؟؟))


قصة قصيرة

 

عبد الرحيم  هريوى


لاشك بأن رأسمال أي كاتب كيفما كان توجهه وفكره، ومجالات كتاباته واهتماماته؛ فهو خياله ...الذي يطوف به في عالمه الحر طليقا مثل عصفور وسط الطبيعة..!! وكلما كان هذا الخيال واسعا ومتشعبا، كلما كان المنتوج والعطاء كما كان يتمناه ذلك الكاتب سواء كان ذلك من حيث الشكل والمضمون ؛ أومن خلال ما سيرويه لنا من أحداث مع تناغمها وتناسقها وتسلسلها . وكذا الأزمنة والأمكنة التي اختارها  لتجري على أرضها كل تلك الأحداث... بحيث يمكن للكاتب أن يحييها للقاريء من جديد؛ فيعيشها وكأنها تقع الآن ، دون إغفالنا لما سيشوق القارئ والقارئة ويجذبهما جذبا قصد معرفة كل صغيرة وكبيرة عما تتم كتابته، و قد يكون لذلك طبعا تأثير وإحساس مباشر على مشاعر الكاتب والدوافع النفسية والسيكولوجية العميقة والباطنية التي دفعته لاختار نوع من الكلمات والعبارات دون غيرها...                         

فما هو السر يا ترى في هذا التقديم مع ما نود كتابته اليوم ؟؟

وكأي كاتب مولوع بحب القراءة، والانعكاف في لحظة من اللحظات العابرة، وهو جالس يتأمل وتائه بخياله يفكر في محطة من محطات حياته... عن شيء ما يستحق أن يحييه من جديد  من خلال إبداعه  الشخصي في منتوج أدبي معين ، يود تقديمه لكل قاريء وقارئة.

لكل هذا ؛ لحظتها يدفعه شعوره الداخلي إلى كتابة أي شيء يرغب في كتابته؛ سواء كان ذلك قصيدة شعرية أو خاطرة أو قصة قصيرة أو مقالة معينة أوغيرها... يجد فيها نفسه طبعا، وتعبرعن واقعه الاجتماعي الذي يعيشه أو عاشه، و يستحق منه معالجته أو إعادة قراءته ونقده من جديد بشكل من الأشكال...!!؟؟

اليوم جلست وأنا تائه أفكر في تاريخ مات وانقرض، إلا في ذاكرة تجمعه ، وإن رغبت يوما في إحيائه ليحيى من جديد بين جيل عايشه. وعايش أحداثه بكل ظروفه وتحولاته وطقوسه. فوقع تركيزي على آمرأة عاشت بيننا تتنقل بين دواوير بلدتنا، كنا ما نزال أطفال صغار لانفقه شيء مما يقولونه أو يحكونه لنا الكبار، سواء كان  ذلك عن طريق حكايات معينة أو قصص خرافية... وأخرى قد تكون واقعية، مما له تأثير كبير على سلامة تكويننا النفسي والعقلي، لما نكبر بعدها و نصير رجالا ، ونعيد طرح كثير من الأسئلة العميقة، لنقف عن حقائق ربما غابت عنا كأطفال صغار، وغابت عنهم أيضا كآباء لثقافتهم المحدودة، ولجهلهم الكبير الذي رضعوا منه؛ وأرضعوه هم لأجيال كثيرة ستأتي من بعدهم ،عن طريق نقل كل هذه السلوكيات والتقاليد والأعراف عبر الطاعة العمياء دون نقاش وحوار وكأنها حقائق لا تناقش وهي تفيد ولا تضر...!!؟؟                                                        


 ونعود من جديد ؛ للمرأة الغريبة الأطوار لنحكي عنها كل شيء .. والتي كنا نسميها (( غليمة )) ((الراحلة)) وكانت جل الأمهات في الدوار تُخِفْنَ بها ؛ كأي شيء كان يُرْعِبُ ، ويجعل الطفل ينطوي عن نفسه، ويصمت صمت القبور. وخاصة لما ترفع الأم بيديها وتشير نحو الظلام، وهي تنادي على هذا الاسم الغريب الذي ربطته الأم لابنها بالظلام والخوف ، لتجعله صائما سواء على الكلام أو حتى على البكاء ، حتى ولو كان يشعر المسكين بشيء يؤلمه في جسمه ، ويريد تبليغه لأرحم الناس عليه... وهل هناك أحن من الأم على ولدها يا ترى؟؟ وهل هناك من يرحم صغيرا ويعطف عليه ويفديه بروحه غير أمه؟؟ لاأظن ذلك ...!!؟؟ ولكن الجهل يجعل الأم تؤذيه في حياته وفي تكوين شخصيته وهي لاتدري..فمن منا لم تخوفه أمه بالغول وبوعو وغيره من الأسماء التي كان بسبب جهلها ... فصنعت بجهلها مخلوقا بل كائنا بشريا يخاف من كل شيء، لا يراه أمامه . ولكنه يبقى يتخيله مرعبا في مخيلته أو بأنه سيكون السبب في اذايته في يوم من الأيام... !!؟؟

      كانوا يخوفوننا (( بغليمة )) ونحن نسمع بها ولم نراها يوما، ولما بدأ يشتد عودنا، ولحسن حظنا كان لنا نصيب في التعليم العمومي بالدوار قرب السوق الأسبوعي، وحينها عرفنا (( غليمة )) تلك المرأة الراحلة، و التي ليس لها مقر يأويها ، بل تعيش متشردة تطوي الأرض طيا ، طيلة نهارها، ولا نعرف عن ماذا كانت تبحث ؟؟ وهي تتغنى بكلمات من الصعب فهمها ، لكنها كانت ترتدي لباسا رثة لا تغيرها لا صيفا ولا شتاء... وتمشي كالسلحفاة لأنها كانت تحمل على ظهرها كومة من الأشياء لايعرف أحد ما هي،  وتلف عليها إزارا طويلا ثم تحملها رغم ثقلها وهي تمشي معقوفة الظهر. وهذا حالها وهي مسافرة نحو المجهول ، ولا أحد منا يعرف قصتها،  ولا متى جاءت لتستقر في زمن من الأزمنة بالبلدة ؟؟ فأمسى كل واحد من السكان يعرف (( غليمة )) ، المرأة الغريبة الأطوار؛ فحين تمر من أمام بيوتنا فكل الأطفال يهربون منها ، لأن هذه  هي ((غليمة)) التي كانت نساء القرية يخوفن بها صبيتهن، ولما يحتمي الأطفال بأمهاتهم ويقبضون بشدة في ثيابهن خوفا من هذه الإنسانة، والتي تم تصويرها في عقلية الأطفال الصغار على  أنها كائن  الرعب و الخوف (قرنديزر زماننا)... وحتى لما كنا نراها ونحن صغار؛ تترآى لنا كشبح سيخطفنا من أحضان أماهاتنا، خاصة وأن شكلها ولباسها ومظهرها الخارجي ، وما تحمله على ظهرها ، ومشيتها كل شيء نراه أمامنا عن شخصيتها يزيد رعب الأمس إلى رعب اليوم،  فتزداد الصورة ضبابية وتعقيدا في ذاكرتنا، وتحتاج لكثير من الأشياء حتى تتضح لنا الصورة الحقيقية ، وبأن ما نراه اليوم أمامنا سوى صورة لآمرأة كبقية أية آمرأة أخرى، أمي أختي عمتي... وأن ما تعيشه هذه المخلوقة البسيطة، لربما لأزمة نفسية عاشتها ، أو مرت بها؛ ولم تقدر على مواجهتها. وأصابها ما أصابها، فأمست آمرأة تحمل على ظهرها شيء بل أشياء كثيرة، كانت تجمعها ولا تترك أي أحد أن يقترب منها أو يمس أثمن ما تحمله فوق ظهرها ... لربما تتخيله ابنها أو ابنتها ..أولادها الذين حرموها منهم في ظروف ما ،نحن نجهلها ... ولما كبرنا وعدنا بالذاكرة للمكان الذي تنطلق منه ((غليمة)) وهي تجوب المسارب والطرقات. والأصوات من كل جهة تناديها بهذا الاسم ، والذي ليس باسمها، بل هو اسم مستعار لها  تعودوا على مناداتها به ((غليمة ..غليمة.. غليمة )) ويعتبر من الأسماء التي انقرضت تماما في مجتمعنا المغربي، ولم يبق لها وجود في زماننا .وقد كانوا يسمون به البنات في زمانهم ...فالكل ها هنا لايعرف اسمها ولا مسقط رأسها، ولا متى جاءت لبلدتنا ،ما عدا (( أمي غليمة)) تلك المرأة التي تحمل الجبال فوق ظهرها...تحمل أثقالا على أثقالها ..جاءت تحملها وتحمل همها وهي راحلة تشق الحقول. وتتكيء على عصا غليظة لا تفارقها، وقد أخذ منها الزمان أخذته؛ ورغم ذلك ما زالت ملامح آمرأة جميلة بادية على وجهها، رغم الأوساخ والغبار الذي يجتمع على جسدها كأثاث منزلي رائع ، بمنزل مهجور ويحتاج سوى من يزيل عليه الغبار يعطي جمالا ورونقا لفضاء المكان...!!

من تكونين أنت يا امرأة ؟؟ وما هي الأقدار التي أتت بك إلى دوارنا ؟؟ ولماذا كنت تحبين المكوث طويلا قرب كومة من الأحجار(قور) قبل أن تنطلق بك الرحلة لأيام وأسابيع وربما لشهور طويلة ؟؟ قبل أن تعودي فجأة لمكانك الأصلي؟؟ وهل هذا المكان يشبه مكانا ما في بلدتك تظنين بأنه هو ؟؟ وهل و هل ...!!؟؟؟


 ما أغرب الإنسان ..وما أغرب حياة البشر، لكل واحد منا ؛ له ألف حكاية وحكاية ...ألف قصة وقصة . يعيشها لوحده ..و(( غليمة )) هذه المرأة الغريبة عنا وعن بلدتنا سيأتي يوم فيه ينكشف لا محالة أمرها... وسيأتي من يحكي للجميع سيرتها الذاتية... وكان ذلك حدثا عظيما بالفعل، صادف يوما من أيام  الصيف ... وقد كان المسلسل طويلا جدا  و مشوقا ، سيحكيه عنها بتفاصيله الصغيرة والكبيرة، أحد الحصادين الذين سيبيتون عندنا حتى الغد، ليشرعوا في حصد أحد الحقول المجاورة في بلدتنا ، وذلك في غياب المكننة في زمننا، بحيث ما زال الفلاح يعتمد على وسائله  التقليدية في الزراعة من محراث ومنجل ودواب لدرس محصوله، بعد جمعه في البيدر حتى شهر غشت، لما يشتد الحر حتى يساعده ذلك على درس حبوبه بسهولة عن طريق (الروا)..كان الحصادون يأتون لبلدتنا من أماكن بعيدة جدا ، وكان هؤلاء هذه المرة من إحدى بوادي الشاوية ويعرفون ((أمي غليمة )) حق المعرفة، وكانوا يحملون معهم آلتهم الموسيقية وهي سوى (أوتار) من الطراز الرفيع، كان يجيد أحدهم الضرب عليه بطريقة رائعة من خلال مقاطع موسيقية متنوعة ، الشرقي منها والشعبي، وذلك وسط أضواء الشموع الباهتة ..وفي مكان خاص، كانوا يقضون فيه ليلتهم الصيفية، وكان بمثابة أمسية فنية سنعيشها جميعا مع هؤلاء الحصادين خلال هذه الليلة الطويلة والرائعة جدا، وكان للعيطة المرصاوية والزعرية حضورها في جميع الأغاني الشعبية التي أطربوننا بها .. وكانت المفاجأة الكبرى خلال هذه الأمسية لما أراد صاحبنا أن يغني لنا أغنية مشهورة في بلدتهم. وقبل أن يبدأها؛ قال للحاضرين من الدوار، فهذه القصيدة تحكي عن هذه المرأة التي صادفناها اليوم في بلدتكم، ولا تعرفون عنها أي شيء يذكر. فإنها من دوارنا بالشاوية، ولم نراها، لما يزيد عن ثلاثة عقود تقريبا  أو أكثر. وقصتها مشهورة عندنا ،وتحكى من جيل لجيل.. فهذه آمرأة اسمها الحقيقي ((الغضفة )) وكانت  تنتمي إلى أسرة معروفة ومشهورة في بلدتنا، فأحبت شابا من القرية نفسها ،وبعد مدة طويلة أمست علاقتهما وحبهما يعرفه جل سكان القرية. مما جعل والدها يسجنها في البيت ،خوفا من المزيد من القيل والقال والعار الذي سببته له هذه البنت، وقد طالت علاقتهما بسبب مشاكل كثيرة بين العائلتين. مما جعل العاشقين في ورطة لإتمام علاقتهما بزواج وأسرة وأولاد ...!! ومع مرور الوقت سينتفض الابن ضد أسرته وبأي طريقة كانت سيتزوج (( الغالي)) من ((الغضفة)) ،وفي إحدى الليالي سمع الحاج الرافة الطرقات على بابه، ولم يكن سوى الحاج الكبير وزوجته الناطوس . جاؤوا ليعتبرونها خطوة أولى في مسار صلح دائم . ولذلك جاء معهم بعض أعيان وشيوخ القبيلة، ومعهم أصدقاء الحاج الرافة حتى يضعونه أمام الخيارالصعب والوحيد، والعرف الجماعي الذي مشى عليه أسلافهم (الجماعة مكتردش) فتحت الباب زوجة الحاج الرافة حادة الخوذة ، فتفاجأت بما رأت عينيها وسط الظلام الذي يخيم على البلدة ، وهي أمام باب بيتها... أعداؤها التاريخيين... لعلهم جاؤوها من دون استئذان، ومعهم كبار وشرفاء الدوار، وبعض من أصدقاء زوجها الحاج الرافة ...والقرارليس بيديها الآن ، لأن الأمر في غاية الخطورة، وخاصة في مثل هذه الأحوال والمواقف الصعبة جدا... وبعدها بلحظة سمعت صوت زوجها الحاج الرافة ينادي من بعيد ، كي يعرف من الطارق في هذا الوقت من الليل؟؟ وخاصة أنه بعد صلاة العشاء، و لعله شخص يريد حاجة ؟؟ أجابت الزوجة (( وعا الحاج الكبير ومرتوالناطوس )) انتفض الحاج الرافة فجأة من مكانه كزوبعة وسط رمال الصحراء..(( هذا سوى لعدو لحرض علي ولدو باش  ينتقموا مني أومن بنتي الغضفة ...مزيان ..ياك أودي لابأس. أش باغين عدي ما زال هاذ الناس ثاني يا ربي)) وهو يصرخ وصوته يكسر ظلام تلك الليلة. فما أن أنزل رجله الأولى أمام الباب حتى سمع أصواتا منها من يعرفها حق المعرفة ، وكلها توحدت في سمفونية واحدة لتقول :(ونعلوا الشيطان وراكم رجال ولفات مات...وهاذ العداوة غادين تخليوها لولادكم) ...

 طأطأ الحاج الرافة رأسه وتقدم حينها عدو الأمس الحاج لكبير ليعانقه بحرارة وكأنه جد نادم عما مضى بينها من صراع... وبعدها بدأ يقبل رأسه والدموع تسيل من عينيه لحساسية الموقف، وكأنه اعتراف ضمني بأنه بالفعل هو الظالم (واسمح لي أسي الحاج الرافة تعديت عليك بزاف والله ينعل بوها الدنيا والشيطان ولد الحرام كيحضر) وما كان على الحاج الرافة إلا أن يرحب بضيوفه ، وهو يقول للجميع :باسم الله ،تفظلوا...مرحبا بكم (نهار كبير هذا). وما على الحاج الرافة في مثل هذه المناسبات إلا أن يظهر حسن نيته ويعطي قيمة كبيرة هذه الليلة لزواره ... فما كان عليه سوى أن يختار من بين الأكباش السردية الممتازة لديه ، كبشا سمينا يملأ العين ليقدمه لضيوفه ..ولعلها لحظة تاريخية في حياته ، لم يكن ينتظر حدوثها بسبب العداوة القديمة والدائمة ، والتي أمست عصية على حلها وعلاجها حتى من طرف كبار ورجالات القبيلة... وكلها تدور حول مشاكل الإرث وما يخلقه من فتنة وعداوة بين الأهل والأقارب بسبب الحب الأعمى للقدماء للأرض والتراب والحجر والأوجاع التي يسببها للأحبة والإخوة في بوادينا... أكلوا وشربوا وتلذذوا بما جاد عليهم به الحاج الرافة (وهو مول الدار الكبيرة ومشهور بسخائه وجوده في القبيلة) ..وبعدها سينطق أحد الأصدقاء الأوفياء للحاج الرافة والذي عادة ما يرد له طلبا .

فقال: إن الحاج الكبير يطلب يد ابنتك المصونة(( الغضفة)) لابنهم (( الغالي )).فماذا تقول؟؟

رد الحاج لكبير حينها قائلا: ليس لدي قول أقوله..فالقول الأول والأخير لابنتي الغضفة

خرج الحاج لكبير لحظتها كي يستشير ابنته ، كعرف من أعراف مجتمعنا البدوي

وبعدها عاد للقوم يحمل معهم بشرى للحاضرين..(( أسيادنا الغضفة راها قبلات..الله يسخر ويجعل كلشي بارك مسعود)).

قرأ الجميع الفاتحة، ورفعوا أيديهم بالدعاء لهم حتى يستمر صلحهم وتعود المياه لمجاريهاـ وبالبنات والبنون للزوجين اللذان كانا سببا رئيسيا في هذا الصلح اليوم..وفي الغد انتشر الخبر وسط دواوير القبيلة كالنار في الهشيم ..والسعادة عمت القلبين العاشقين،وفتحت أمامهما أبواب السعادة التي كانا يتمنيانها، ولربما لم تكن تراودهما كحقيقة حتى في الأحلام ، واليوم تحققت لهما ...!!؟؟

  أقيمت جميع العادات والطقوس والأفراح التي اعتاد عليها أهل البادية في أعراسهم سواء في بيت العروسة أو العريس، ودامت أسبوعا كاملا. انتقلت بعدها ((الغضفة )) لبيت زوجها (( الغالي )) وكلها أمل في الحياة بالقرب من شخص أحبها من كل قلبه، وأراد أن يضحي من أجلها بكل شيء غالي يملكه، ويكسركل القيود بين العائلتين كي تكون ((الغضفة ))من نصيبه ..فكان النصر حليفه وما ضاع شيء وراءه مطالب ..عاشا حياة سعيدة وأمسى يضرب بهما المثل في وسطهم البدوي بين الرعاة وسط الحقول والبساتين وعبر الفصول..أنجبت الغضفة للغالي ثلاثة أولاد وأربع بنات، وكانت تقوم بكل ما يتطلب منها الأمر في مجال مسؤوليتها كآمرأة بدوية من أشغال في الحقل والزريبة والمطبخ ، والاهتمام بالأبناء والبنات وتربيتهم على قيم الفضيلة والأخلاق الحميدة... لكن هناك دائما شياطين الإنس والجن يعاشروننا ، وألسنتهم أحلى من العسل ، لكنهم يحملون في صدورهم قلوب ذئاب جائعة . ولا رحمة فيها على أي أناس آخرين. ما ظلموهم وما تعدوا عليهم يوما، لكن الغيرة وإبليس اللعين يعميان البصيرة الآدمية ، وعادة ما يكونان السبب في إقدامهم على إذاية المخلوق بسحرهم وشعوذتهم وطلاسيمهم . فتعمى بصيرتهم مرات متتالية، ويقعون في المحظور..

  فآمرأة الحاج لكبير الناطوس هذه، توطدت عداوة صامتة بينها وبين الغضفة زوجة آبنها الغالي، وفعلت ما في وسعها كي تفرق بين قلبين عاشقين..زورت ..أحبكت حكايات وحكايات لابنها الغالي، لكنه كان حذرا مما تفتعله أمه من سيناريوهات ،فيبطلها في حينها .وبعدها لجأت إلى (الأسلحة ذات الذمار الشامل) ..وكانت عليها وعلى أعدائها، وهي تتوهم بأن آبنها سرق منها في غفلة منها ، ولم يبق يلتفت لوجهتها..ولم يبق يعطي مصداقية لكلامها..ففكرت في التركيز على الغضفة المسكينة لتنتقم منها ألف مرة ، وذلك من خلال ما ستقدمه لها من سموم وأعشاب ضارة ستطعمها لها في أكثر من وجبة غذائية ، وهي التي تعتبرها في مكانة أمها... ولعلها سوى خزعبلات تتناقلنها نسوة البادية ويساعدهن في ذلك العمل الشنيع بعض  العرافين والمشعوذين والدجالين عبدة الشياطين ليعشن وسط أوهام الخرافة والشعودة الدائمة حتى الموت ... و مما يساهم في قتل النفس البشرية بكيفية ما والتي حرم الله قتلها إلا بالحق .

 ظلت هذه المرأة الشريرة والتي ليس في قلبها رحمة تطعم زوجة ابنها (( الغضفة)) بسموم متنوعة ظنا منها أنها ستبعدها  عن أبنها بشكل من الأشكال لكن في الحقيقة فستحول هذه المرأة المسكينة إلى جسم بلا روح.. ستعطل فيها دماغها أحاسيسها شعورها...

في صباح أحد الأيام نهضت المسكينة وهي لا تبالي بما تقوم به في غياب كينونتها كإنسان وكبشر له عقل يفكر به وأحاسيس ومشاعر يعبرعنها، فجمعت أمتعتها وحاجيتها وحملتها على ظهرها وخرجت هاربة من الجحيم..من جحيم من ليس في قلوبهم رحمة لا على أولادهم..ولا على الآخرين..رحلت الغضفة المسكينة غير مدركة لأي شيء ، وتركت أولادها وبناتها يبكونها وهم لايعرفون ماذا أصاب أمهم المسكينة فجأة...وهي التي كانت تتلقى الضربات في صمت...حتى جاء فيه الوقت الذي ماتت(( الغضفة )) وهي حية..وكان سببها شياطين الإنس.. بكى كل من يعرف (( الغضفة ))..ودعوا بأن ينتقم الله فيمن كان السبب.. ولم تمر سوى شهورا قليلة حتى انتقم الله سبحانه وتعالى ممن كان السبب ،وأنزل الله غضبه عليها..ففي صباح أحد الأيام شعرت المرأة الظالمة  زوجة الحاج الكبيرالناطوس بأن شقها الأيمن تجمد فجأة، وكأنه ليس منها... وتشعر بدوران شديد وتتقيء في كل مرة..أخذها زوجها الحاج لكبيرعلى وجه السرعة لإحدى العيادات بالمدينة، وبعد الفحوصات الأولية طلب الطبيب المختص في المخ والأعصاب بضرورة القيام بصور وأشعة عبر ((السكانير ))على مخ المريضة ونصفها المشلول ، لتظهر صور الأشعة للطبيب بعدها بأنها تحمل(( ورما خبيثا في المخ)) جد متقدم. فنصحه بأن يعود بها للبيت وبأن حالتها ميؤوس منها و أعطاه بعض المسكنات لتهديء بها آلامها ..وستموت بعد شهرين بعد معاناتها من العذاب ليلا ونهارا..وستبقى قصتها مع زوجة ابنها(( الغضفة)) تروى في الدوار وألف أحد شيوخ العيطة بالمنطقة أغنية شعبية رائعة عن العشيقين ((الغالي والغضفة)) وعن الشرالخبيث الذي يكره الخير بين بني البشر...

وبهذه المناسبة سأغني لكم هذه الأغنية عن المرأة المجهولة الهوية والأصل والاسم التي حطت رحلها عندكم منذ عقود وأعطيتموها اسم ((غليمة)).. واسمها الحقيقي عندنا في الدوار هو((الغضفة))

فغنى الحصادون الأغنية  بعدما ذكروا الحضور بقصتها كاملة من أولها حتى آخرها...

فهناك من تأثر لمقاطعها ولم يتمالك نفسه وأجهش بالبكاء..وبعدها الكل أصبح يحن ويتألم لحال(( الغضفة)) فهي لم تعد تعرف اسمها، سواء ناديت عليها باسمها الحقيقي أو باسم غليمة..!!؟؟


◾رحمة الله عليك أيتها المرأة ((غليمة )) عشت بيننا آمرأة راحلة. فهل أنت التي غنى عليك المغني المغربي المشهور محمد الحياني رائعته ((راحلة)) ؟؟.

تعليقات

في رحاب عالم الأدب..

سي محمد خرميز أيقونة من أيقونات المدينة الفوسفاطية.. بقلم عبد الرحيم هريوى الدار البيضاء اليوم/المغرب

عزيزة مهبي؛ المرأة الفوسفاطية بخريبكة ، العاشقة لمهنة التعليم على السياقة، وسط الكثير من الرجال..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

ماذا أصابك يا إعلامي زمانه و يا جمال ويا عزيز الصوت واللحن..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

العين التي أعطت ضربة الجزاء للفتح الرياضي بدون الرجوع للفار هي العين نفسها التي ألغتها بنفس القرار بعدما شوهد الفار- بقلم الكاتب الفوسفاطي /:عبد الرحيم هريوى

"السوليما" الإفريقية بخريبكة بين قوسين..!ومحمد درويش يقول على هذه الأرض ما يستحق الحياة..!! عبد الرحيم هريوى..!

كلمة عن بعد ؛ عبر العالم الافتراضي كمشاركة منا في حق تكريم أستاذ لغة الضاد الأخ مصطفى الإيمالي بالثانوية التأهيلية عبد الله بن ياسين بٱنزكان - عبد الرحيم هريوى

ياسين بونو توأم لبادو الزاكي حارس مايوركا في زمانه..!! بقلم عبد الرحيم هريوى