عندما يحْكمُ الجاهِلون هذا العالم.. الروائي والشاعر محمد نخال أݣادير - المغرب
عندما يحْكمُ الجاهِلون هذا العالم..
بقلم محمد نخال
أݣادير - المغرب
وأنا جالسٌ على ربْوَة مُطِّلة على البحر ، أتأمل في ملكوتِ الخالق، وأفَكّر في سِرّ الصراع بين المخلوقات في هذا الوجود، وأراقبُ رقَصات الأمواج، وهي في حَركة دائبة، لا تَمَلُّ ولا تَكَلُّ ذهابا وجيئة، في تناغم عَجيب، أحيانا في حنانٍ تُداعب رمال الشاطئ، وأحيانا في تَجَبُّر تقْسُو على الصّخور، فيُسْمع صَدَى زمْجراتها في المَغاور كهَدير رعْد يُبَعْثر الشِّعاب الخاوية، وأحْيانا أخرى تتَراءى لِناظِرِها وكأنّها فِرقة من راقِصات "بَالي"، تُؤدّي وصْلة إبْداع على نَغمات سَمْفونية الخُلود في مسرح البهاء. فجأة تَسَلَّلتْ إلى داخلي، وفي غفْلة مني نُسَيْمات من أمواج البحر، أسْكرت روحي، وغَمَرت عيناي غِشاوة، فأكْتَسَحَتْني رَعْشة عَتِيَّة، وأحسستُ بأني انْفَصلتُ عن ذاتي المادية، ودخلتُ إلى عَوالم مِيطافِيزقية ما خَطرتْ على بال، فوجدتي فيما يجِدُ كل حالمٍ بالسِّلْم والأمان، بأنّي امْتَطيْتُ صَهْوة بساط من الخيال، وساقَتْني الرّيح إلى شِعابٍ مُبْتَلَعَة تَكْمُن في أغْوار البحر، هناك بين دهاليز مياهه العَميقة، وفي قصْر بديع، غُرَفه من المرجان المُرصَّع بالياقُوت الأخْضر، وأسْواره من العَوْسَج، تَحْرسُه حُورية أبْدعَ الخَيال في رَسْم ملامِحها، شَعْرها الأشْقرُ ذهَبيٌ، يُباهي أشّعة الشّمس في رَوْنَقِها، تَرتدي فُسْتانا شَفّافا من الطَّيْلَسان، قِوامُها رشِيقٌ، كأنّه قَضِيب خَيْزُران، شَفَتاها خُطًّتْ بألوان غُروب ساحِر، ريقُها من العَنْبر فيه دَواء لكل وَلْهان.
في هذا القَصر يسْكن "نَيْرُون" سَيّد البِحار ومَلكُ المُحيطات، في هُدوء، ويَنْعَم بِراحة بلا ضَجَر.
سألتُ عن السِّر، فقِيلَ: لأنّه لا ينْتمي لسُلالَة البَشر، ليستْ له صِلَة بسُلالة أزْهَقَتْ أرْواح بني جِلْدتها، واسْتباحَتْ عُذْرية أوراق الشّجر، سُلالة نَبَشَتْ قُبور المَوتى طمَعا في الكُنوز، ولم تسْلمْ منها حتى صلابة الصّخر، سُلالة سَفَكَت الدماء، وعَكَّرت صَفْوة مياه الأنهار، ودنَّسَتْ براءة الأطفال، سُلالة أحْرقت اليابس والأخضر، ولم تُبْق ولم تَذَر، بكَتْ من بَطْشها السّواقي، وناح الحَمام من طُغيانها وقتَ السَّحر.
وأنا في عَرَسات التَّيْه، فإذا بِ"عَشْتَرُوت" مَلكة الحبّ والجمال وقد جاءته بالخَبر، وبعد أن انْحَنَتْ لسُدَّتِه العالية قالتْ: سيِّدي ومَوْلاي "نَيْرُون"، لقد تَطاوَلَ بنُو البَشر على مَمْلكتِك، وعاثُوا فيها فسادا، لَوَّثُوا شَواطئ بِحارك، واسْتَباحُوا حُرْمَة أسْماكك، ومَخَروا عُبابَ أمْواجك بِسُفُنهم التّي تَقْذِفُ حِمَم النار، يتَقاتلون بيْنهم، فحَوَّلُوا زُرْقة مائِكَ إلى أرْجُوانية، فما أنتَ فاعِلُ؟
نظر إليها نَيْرون في هُدوء وقال : سيِّدتي أتَتَعَجَبين من سُلوك من حالَف الشّيطان، وتآمَر على أنْبياء الرّحمة، وأنْكر النِّعْمة وكفَر؟
يا "عَشْتار" من يَحْكُم هذا العالم هم الجاهِلُون، وهم أكثْر النّاس ثِقَة بأنْفسهم، لأن القاعِدَة تقُول: أنه كلما قَلَّتْ مَعْرِفة الإنْسان، زَادتْ ثِقَتُه بنفسه، أما إذا زادتْ مَعْرفَتُه، فَتَقِلُّ ثِقَتهُ بِنفسه، لأنه يَكْتَشِف جَهْله، لذلك فالجاهِلون واثِقُون من أنْفسهم، أما الحُكماء فلَذَيْهم الكثِير من الشُّكُوك.
إنّ هَؤلاء الجَهَلَة، يُمارِسُون نَظرية "العَماه، والفَوْضَى المُطْلقة" في هذا العالم البَئيس، وشِعارُهم، أنَّه إذا كان مآلُ هذا العالم إلى الزَّوال، فلماذا يسْعَوْن إلى تَرْتيبِه وتَنْظِيمه! لهذا فهُم يَزْرَعُون الفَوْضى في كل أرْجاءه، وحُجَّتُهم أنّ الإنسانَ كَكِيان، يُولد مُرَتَّبا ومُنَظَّما، وعنْدما يَكْبر، تزْرَع الأمْراض الفَوْضى في سائر أرْجائِه، ويَنْتَهي به المَطاف إلى الزَّوال، لهذا فهم يَزْعمون، أنهم لا يريدون أن يُعاكِسُوا الطبيعة، وبهذا وجَبَ نشْر الفَوْضى في كل المُجْتَمعات.
إن أصْحاب هذه النَّظرية يا عَشْتار، وبكُلِّ بساطة هم من قال فيهم الله على لِسان مَلائكته " أتَجْعلُ فيها من يُفْسِدُ فيها ويَسْفِك الدّماء"...
بقلم محمد نخال
تعليقات
إرسال تعليق