غدر الزمان..بقلمي نورالدين بنصالح زرفاوي خريبكة/ المغرب
.. ِغَدْرُ اَلزَّمَان
بقلمي نورالدين بنصالح زرفاوي
خريبكة/ المغرب
وأنا أسير على الرصيف، أثارتني بشاعة المنظر وسوء المنقلب الذي آلت إليه تلكم البناية التي كانت، ذات زمن جميل مضى، تنعم بالشهرة الواسعة.. تلقائيا، توقفت قبالة بابها العريض.. قضبانه الملولبة غُيبت تحت صفيحة من حديد نخرها الصدأ من أسفل.. اللوحات الخشبية المثبتة على طرفيه، والتي كانت يوما معرض إشهاريات أروع الأفلام، اهترأت وتآكلت أطرافها.. على عتبته تجمعت كل أنواع القاذورات.. الواجهة فقدت كل الرونق والجمال. وقطٌّ أسود!.. نعم!.. قط أسود يجلس ببابها على قائمتيه الخلفية يعرض جسمه لأشعة الشمس الدافئة التي تتسلط على المكان.. ولعل وقع خطواتي، وأنا أتوقف بالقرب منه، أفسد عليه غفوته.. فتح عينين قرمزيتين بدتا ضيقتين بفعل ضوء الشمس الساطع.. تحرك ببطء وبدلال يختال في مشيته.. ثم ولج، بثقة معهودة، إلى داخل البناية المهجورة من خلال كوة أسفل صفيحة الباب الحديدي..من خلال القضبان الملولبة للباب الحديدي المغلق أحاول جاهدا أن أحشر رأسي الصغير، مدفوعا بحب استطلاع جارف.. وعندما لم تسعفني المسافة الفاصلة بين القضيبين، ظلت عيناي تدوران في محجريهما ذات اليمين وذات الشمال أستكشف كل شبر من تلك العلبة السحرية.. ربُّ القاعة اتخذ مكانا قصياً من البهو، يرقب كل ما من شأنه أن يأتي حركة.. وفي أحد الأركان، موظف وراء مكتب صغير من زجاج شفاف منهمك في عدِّ حصيلة بيع التذاكر.. أرضية البهو تشتعل نظافة، ومن سطحه تدلت ثريات بلورية بديعة متناسقة.. أتطلع إلى الملصقات الإشهارية التي تكاد تُغيِّب بالكامل جدرانا مطلية بأزهى الألوان.. لوحة قط تتصدر الفضاء.. قط أسود اللون، يبدو عملاقا متسيداً وهو يقعد على قائمتيه الخلفية في أبهة واستعلاء..سهام نظراته الحادة تشي بالشر وبالقسوة.. وفي خلفية اللوحة الكبيرة، وجوه نسوية، ملامحها تعكس معاناة ورعبا.. قبالتي مباشرة، دفة باب قاعة العرض المكسوة بجلد أحمر مؤصدة.. ومن ورائها ينبعث صراخ نسوي مرعوب، يتخلله مواء عنيف مصحوب بموسيقى صاخبة.. الصراخ على أشده.. قلبي الصغير يدق بعنف، ويداي تضغطان بقوة على القضبان الحديدية الملولبة من الخوف.. تدريجيا يتوارى الصراخ النسوي إلى أن يتلاشى نهائيا.. في حين يظل مواء القط مسترسلا، قويا وعنيفا كالزئير، ليهدأ في الأخير أيضا.. وتهدأ الموسيقى، فيخيم صمت رهيب.. تجتهد مخيلتي الفتية المحمومة في تصور المشهد الدامي، ونسج عشرات الصور لذلك القط المسكون بقوى شريرة، وهو يفتك بضحيته المسكينة.. في الداخل، يتعالى المواء ويحتد من جديد.. هذه المرة بين قطين اثنين.. من الكوة أسفل الباب الحديدي، يخرج أحدهما غانما بين فكيه جثة جرذ تنزف دما.. يجري في تلابيبه قط آخر.. يلتحمان في صراع مميت.. يفوز أحدهما بالفريسة، فيتسلل ثانية من الكوة إلى الداخل.. أعلى الباب الحديدي، اليافطة الزجاجية التي كتب عليها اسم القاعة بالأسود وبخط غليظ - وقد علاها الغبار -لا تزال صامدة لفعل الزمن.. وحدها تشهد على أن القاعة كانت يوما محجة لجمهور مهووس بحب السينما، يأتيها من كل فج عميق.. شاشتها السحرية تعرض أشهر الأفلام وأروعها، وقد آلت الآن إلى وكر للقطط المتشردة والجرذان، ومطرحا لشتى أنواع الفضلات البشرية.. التفتَّ خلفي.. على الرصيف المقابل من الشارع، مقهى يعج بعشرات الزبائن غارقين في شاشات هواتفهم الذكية.. حضرني البيت الشعري: " لا تأسفن على غدر الزمان لطالما، رقصت على جثث الأسودكلاب".. همست لنفسي، وأنا أتابع سيري: " المسألة ليست مسألة أسود وكلاب، وإنما هي تكنولوجيا حديثة تتطور عبر الزمن.. من امتلكها.. من فك طلاسمها.. من روَّدها..حيزت له الثروة، والقوة، والسلطة.. فأمن غدر الزمان"..
تعليقات
إرسال تعليق