رحلة النورس ( 7 ) .. بقلم الكاتب عبد السلام كشتير
رحلة النورس ( 7 ) ..!!
/ بقلم الكاتب /
عبد السلام كشتير
أنهت العشرة أيام بالتمام والكمال ، قضتها في رحلة عمل بين أحضان مدينة لطالما كانت تحلم بالسفر إليها وتبرمج زيارتها في كل مناسبة . كان السفر إلى هذه المدينة يمثل بالنسبة لها بداية التحرر مما يكبلها ، لتنطلق إلى تنفيذ الرؤية التي ساورتها ذات مساء متميز في مقهاها الشاطئية .. إلا أنها لم تبلغ مناها . فجاءت هذه الرحلة لتكون مناسبة وفرصة لتحقيق حلمها .. فضربت عصفورين بحجر واحد كما يقول المثل .. العمل والسياحة .. فترة زمنية كانت كافية لتنفتح على العالم من حولها أكثر ، وتتخلى عن بعض الأفكار والقناعات التي كانت تحملها رغما عنها ، وتوسع مداركها وعلاقاتها العامة كتلك التي لها صلة بالشغل ، أو الخصوصية من خلال لقاءاتها بعدد من ممثلي المؤسسة التي تعمل بها ، ممثلين جهويين وضيوف مشاركين ساهموا في تنشيط أطوار هذه اللقاءات .. فكانت الأيام الدراسية مناسبة لتبادل الخبرات والتجارب والوقوف على معوقات ومشاكل المؤسسة وفروعها بين مختلف هذه الفئات .. وفرصة لتبادل وجهات النظر في قضايا أخرى عامة بعيدة عن الشغل ...
حاولت خلال ماتوفر لها من وقت على هامش هذه الأيام ، اكتشاف خبايا هذه المدينة الحلم وسبر أغوار أسواقها وفضاءاتها الترفيهية والسياحية والتجارية .. فشوقها إلى هذه المدينة كان قويا يتجاوز كل تصور ..
أوقف السائق سيارة الخدمة أمام باب المنزل مباشرة ، وهم بنقل ما بصندوقها من حقائب ، بعدما فتحت باب المنزل وهي تنبهه بأن يضع كل الحقائب والأكياس في البهو فقط .. لتتكلف هي بإيصالها إلى غرفتها .
كان الجو معتدلا والرياح الغربية الخفيفة تنقل نسائم البحر العذبة فترطب الأجواء وتلطفها ، والظل بدأ يغزو كل واجهات المنازل بالشارع إيذانا ببداية الغروب ..
سمعت والدتها صرير المفتاح وصوت الباب وهي تشرع ، فتسرب معها الهواء البحري إلى عمق المنزل .. أصاخت سمعها نحو مصدر الصوت .. ثم خطت خطوات هادئة تجاه المدخل لتفاجأ بابنتها واقفة أمام الباب الخارجي للمنزل ، تراقب السائق وهو يحمل حاجياتها من السيارة إلى البهو ، وهي تصدر تعليماتها له بما سيقوم به لاحقا . ثم غادر إلى حال سبيله بعد ما أنهى مهامه ..
ثبتت في مكانها تتابع هذه الحركية ، والابتسامة تملأ محياها فرحة بعودة ابنتها سالمة غانمة من سفرها ..
أغلقت الباب خلفها واستدارت نحو الداخل لتلفي والدتها واقفة تنظر إليها وهي تهم بفتح دراعيها لاستقبالها .. أسرعت إلى والدتها فغاصت في أحضانها وضمتها بقوة وهي تقبلها وتمسح على ظهرها وتستقبل سيل الأسئلة عن أحوالها وظروف سفرها وإقامتها وتنعم بالدفء الذي افتقدته أزيد من أسبوع ونيف . ودقات قلبيهما تسمع في أذنيها كأنهما التحما في جسم واحد .. ثم أبعدتها عنها قليلا وأخذت بدراعيها وهي تتأملها لحظات ..
- تبدلتي شوية ...!
أفرجت عن ضحكة خفيفة ، وعيناها تشع منهما علامات الفرح والحبور بمقدم ابنتها التي اشتاقت إليها . ثم أضافت ..
- زيانيتي .. !
- ألم أكن جميلة من قبل يا أمي ؟
تجيبها وهي تعيدها إلى أحضانها .. فتسمع ثناء والدتها وتحس بمداعبتها التي اعتادت عليها ..
- أصبحت أجمل .. هناك تغير حدث على ملامحك لم أكتشفه بعد .. زادك بهاء ..
تضحكان معا وتتقدمان خطوات نحو غرفة النفساء ، وهما تمسكان أيدي بعضهما البعض ، للسلام عليها ومباركة وضعها .. فكانت زغرودة قصيرة هي فاتحة اللقاء بأختها والزائر الجديد ..
- ضيفنا جميل ووسيم .. بارك الله فيه .. على سلامتك أختي .
- شبهكما أنتما الإثنان ..!
- لا .. يشبهني أنا فقط .. أخذ مني كل شكله تقريبا .. أليس كذلك ياأمي ..؟
تهش الأم رأسها بالإيجاب وهي لا زالت تمسك بيدي إبنتها الكبرى العائدة من سفرها ، وتضغط عليها برفق لما سمعت رد الأم الصغيرة .
- أسعدكما الله برفقته وأقر عينكما به وأصلحه وأنبته نباتا حسنا ...
- هيه .. ما الإسم الذي اخترتما لهذا الضيف الجميل ...؟
تسأل أختها وهي تهم بأخذ الرضيع بين ذراعيها .. إلا أن النفساء كان لها رأي ٱخر حينما لاحظت أختها تدنو أكثر من مهد الرضيع .. ودون أن تجيبها عن سؤالها وتفصح لها عن الإسم المنتظر للرضيع ، تنبهها ..
- إنه في حاجة إلى الراحة والهدوء أكثر .. لم ينم الليلة الماضية إلا سويعات معدودات .. !
تراجعت إلى الخلف قليلا مستسلمة ، وهي تنظر إلى الرضيع في مهده بعدما ساد صمت بينهن ، كانت فيه نظرات الأم وابنتها كفيلة بأن تفسر أشياء كثيرة حملها حوار البنتين ... ثم توارت قليلا إلى البهو ، لتعود وفي يديها كيسين كبيرين من الورق المقوى الصقيل ، جلبتهما إلى الغرفة ، تضع فيهما هدايا الأم ورضيعها .. أفرغت الكيس الأول لتعرض على أختها المستلقية في سريرها الهدايا الخاصة بالضيف الجديد .. ثم أتبعتها بما اشترته لأختها من حاجيات ، وهي تنشرها بجانبها على السرير ..
لم تبد النفساء اهتماما كبيرا بالهدايا ولا بالثناء ومناخ الفرح الذي رافق عرض هذه الهدايا ، ولم تزد على كلمة "شكرا" أي لفظ لتثمن اهتمام أختها بها وبمولودها ..
بعدما انتهت من عرض الهدايا التي حملتها لأختها وابنها ووالدتها ، جلست هي على الأريكة القريبة من السرير في وضعية تجعلها مواجهة لأختها وأمها . وأخذت الأم مكانا لها على حاشية السرير الذي تستلقي فيه ابنتها ، بعدما وضعت وسادة بين رأس السرير الخشبي وظهر ابنتها ، لكي يتواصلن بشكل أفضل فيما بينهن .. ثم انطلق الحديث عن كل شيء حدث خلال غيابها عن المنزل .. بعد صمت حذر أعقب لحظات فتح أكياس الهدايا ..
دار حديث مطول حول ظروف السفر وفضاء الإقامة وأيام العمل والشغل المكثفة ، والأجواء التي رافقته .. وعن الوفود التي حضرت هذه اللقاءات .. وعن أوقات الاستراحة واكتشاف المدينة التي استقبلتهم ..
وهي تحدجها بنظرات غير مشجعة على الاستمرار في الحكي ، غيرت النفساء موضوع الحديث ..
- قطعتي شعرك ...؟
- نعم أردت أن أغير شيئا ما من مظهري .. هل أعجبتك التسريحة الجديدة ؟
- لا بأس بها .. إنها تسريحة شبابية أكثر ، وأنت تلزمك تسريحة موافقة لسنك ..!
- أختك لا زالت شابة .. وعليها أن تقبل على الحياة بمرح أكبر ..
وتضيف الأم وعيناها لا تفارق تسريحة شعر ابنتها ..
- صراحة أعجبني شكلها ، وفرحت بالتغيير الذي طرأ على ابنتي .. حفظها الله ..
بالرغم من أن الأم أبدت إعجابها بهيأة ابنتها الجديدة ، وهي ترفع من معنوياتها لكي لا تسقط فريسة لانتقادات أختها ، وتأويلات كلامها .. حاولت أن تغير مجرى الحديث إلى أشياء أخرى .. علها تعيد الدفء إلى هذه الأمسية المتميزة ويستمر الحديث بينهن طيبا رائقا .. غير أن الأم الصغيرة استمرت في قصف أختها ظنا منها أن ماتتفوه به هو عين الحقيقة ..
- في نظري ، دعك من الكلام عن العمل والتفكير فيه والترقي والمكافٱت ، وابحثي لك عن زوج يسندك في حياتك .. وترزقي معه بطفل .. فعجلة الزمن سريعة ..
- شوف لك شي راجل أحسن .. !
- دابا يجيب الله .. هو الرزاق العليم .
تبادر المعنية بالكلام بالإجابة بعدما فكرت قليلا في الرد المناسب .
خرصت الألسن وساد الصمت وفهمت الرسائل التي ألقت بها الأخت الصغرى أمام الجميع .. وتبين أن وجهات النظر مختلفة باختلاف طموح كل فرد وهدفه من هذه الحياة .. بالرغم من أن موضوع الزواج والزوج وما ارتبط به يؤرق الأخت الكبرى ويسيطر على تفكيرها أحيانا كثيرة .. لكنها صارت تبحث عن ضالتها في أمور أخرى تراها مهمة الٱن .. ولعل طريق النجاح التي انفتحت أمامها كفيلة بأن تمحو ٱثار وقع كلام أختها عليها ، وتحفزها على الإقدام على الحياة بنفسية مطمئنة ..
- تعالي معي إلى المطبخ نهيئ معا طعامنا .. ربما أختك وابنها في حاجة إلى قليل من الهدوء والراحة ..
تغيرالأم مجرى الحديث ، بعدما لاحظت أن ابنتها أزاحت الوسادة من تحت أكتافها لتستلقي في وضعية من تريد أن تنام ...
تعليقات
إرسال تعليق