بولي " الصبح ينبلج.. قصة قصيرة بقلم الروائي الزرفاوي نور الدين بن صالح
" بولي "
الصبح ينبلج..
ارتديت بذلتي الرياضية أستعدُّ للخروج في حصة تماريني المعتادة.. لكن، ما كدت أنتهي من انتعال فردتي حذائي، حتى خطر ببالي.. نعم!.. هكذا وعلى حين غرة، رغم أنه كان قد انقضى زمن طويل على آخر عهد لي به.. والغريب أنه لم تكن تجمعني به أكثر من زمالة دراسة محملة بشتى التناقضات.. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما أكون أنا مستغرقا بجدية في الدرس والتحصيل، وقد تبوأت مكاني في المقاعد الأمامية من حجرة الدرس، تراه هو راكنا في خمول وكسل في إحدى زاويتيها الخلفية.. أما خلال حصص الرياضة، وفي الوقت الذي تراه فيه هو يبدع ويتفنن في اللعب، تجدني أنا أختلق شتى الأعذار حتى أتخلف عن تلك التمارين المقيتة.. هذا، أما كلما تصادف وأن وجدنا نخوض في الحديث عن سقراط الفيلسوف، إلا وتدخل هو وجنح بنا للحديث عن سقراطيس اللاعب.. فلم نلبث أن فرقت بيننا سبل الدراسة، ومن بعدها ظروف العمل، عمرا مديدا من الزمن حتى تلاشت ذكراه وطواها النسيان إلى الأبد.. إلا أنه في هذه الصبيحة، عاد طيفه يطغى عليّ بإلحاح شديد.. "بولي"، ذاك الفتى الذي يطفح حيوية ونشاطا.. "بولي"، الرياضي المرموق.. لياقة بدنية عالية.. مراوغات ولمسات كروية فنية ساحرة تتوج في الغالب بأهداف رائعة.. حتى لقد تنبأ له كل من عرفه، من قريب أو من بعيد، بمستقبل كروي لامع، بل وبشهرة عالمية.. والحقُّ، أنه كان يجسد، بهيأته وبطريقة لعبه، النجم البرازيلي "بولي".. لقد كان للاعب الأسطورة ذاك نسخة طبق الأصل.. لذلك صار لقب "بولي" لصيقا به أينما حلّ وارتحل، حتى بات الجميع لا يعرف له اسما آخر غير "بولي"..
غادرت البيت، فاستقبلتني أزقة الحي الذي لا يزال ينعم بالهدوء والسكينة.. قرصت وجنتي نسائم برد حانية، فدبّ في أوصالي انتعاش وحماس لم أشعر بهما منذ زمن الصبا والشباب.. إلا أنه في الوقت الذي كان علي أن آخذ في مساري المعتاد الذي يفضي إلى خارج المدينة، حيث الكهول والشيوخ من أقراني المتقاعدين يواظبون على ممارسة طقوسهم الرياضية في الطبيعة حفاظا على ما تبقى لديهم من قوة.. وجدتني- وكأني أستجيب نداء خفيا- آخذ في الاتجاه المعاكس، حيث يقود ذلك الشارع الطويل العريض إلى مركز المدينة..
على الرصيف الممتد الخالي من المارة كنت أمشي.. والمشي يستحسن في سني هذه لتنشيط عضلات آيلة إلى الضمور، وتحفيز جسم آخذ في الركون إلى الكسل والخمول.. هكذا كنت حينها أفكر وأنا أهرول، وجسمي يتصبب عرقا.. ورغما عني، بين الفينة والأخرى، كان طيفه يقطع علي حبل تفكيري: ترى أين انتهى به المطاف ؟.. لعله الآن يعمل مدربا لإحدى الفرق الوطنية !.. أو لعله هاجر واحترف في دولة من دول الخليج، فجمع ثروة، وأدى مناسك الحج والعمرة، وعاد إلى البلد ينعم بتقاعد مريح !.. أو لعله هاجر إلى أوربا، واحترف ضمن إحدى الأندية المشهورة، ثم تزوج حسناء شقراء فطاب له المقام هناك !.. فعلا، لاعب موهوب وعبقري مثله لن يكون الآن إلا كذلك.. هذا إن كان الرجل لا يزال على قيد الحياة...
ولكن!.. ولكن، ما بال ذكراه تجثم على مخيلتي الآن بلا هوادة ؟!..
في وسط المدينة، المحلات التجارية لا تزال مغلقة.. في حين، وحدها المقاهي قد شرعت أبوابها تنبعث من العصرية منها موسيقى غربية هادئة.. ومن الشعبية منها آيات الذكر الحكيم، وقد عبقت الأجواء المحيطة بها بروائح الفطائر، والإسفنج، والحريرة.. فتسمرت أمام بابها شرذمة من المتشردين والمتسولين حفاة شبه عراة، بعضهم يرتجف من الجوع ومن برودة الصباح، يتطلعون بنظرات حزينة منكسرة، وملامح متعبة إلى جود وكرم الوافدين عليها.. في ذلك الوقت كان أحدهم يقف منعزلا متسمرا على الرصيف المقابل، يحاور الهواء: تارة يكيل السب والشتم واللعنات.. وتارة أخرى يحتج بقوة ويعطي التعليمات.. كان يمسك بين يديه كرة، أو قل شبه كرة.. توقفت أرقبه.. قوة خفية وغريبة شدتني إليه شدا.. رأس أتى عليه الصلع كلية، ولحية كثة اكتسحها بياض أغبر.. هيأة وإن جار عليها الزمان لا يزال بها شيء من صلابة.. وضع الكرة أرضا أمامه، وبقدم حافية ركلها بما أوتي من قوة، حتى إذا ارتطمت بالباب الحديدي لأحد المحلات التجارية المقفلة قبالته، صاح منتشياً وهو يفغر فماً خاليا من الأسنان:
-الهدف الأول!.. لقد فعلها "بولي"!.. أحسنت يا "بولي"!..
ثم انفجر بضحك مجلجل...
نورالدين بنصالح زرفاوي/ المغرب
25 / 12/ 2021
شكري وامتناني لك أستاذ عبدالرحيم على النشر وجميل الاهتمام بالإبداع والمبدعين.. تحياتي والتقدير.
ردحذف