حكاية مدينة 

قصة قصيرة

 بقلم

 الروائي الفوسفاطي

 الزرفاوي بن صالح نور الدين

  في البدء، كانت أرض خلاء.. شعبة تحيطها كهوف وشعاب من كل جانب.. ينمو بها نبات الدوم وشجيرات السدر.. وبها كثير من الحجر والحصى، حتى ليخيل إليك أن السماء من فوقها تمطر حجرا وحصى. وكنا نحن- أنا وأقراني من بني عمومتي- إذ ذاك أطفالا صغارا نرعى بها الغنم والماعز حفاة، شبه عراة.

   ثم بدأت تجوب المكان سيارات " الجيب" الشبه عسكرية، وكنا، نحن، كلما رأيناها قادمة، تركنا شويهاتنا وفررنا خوفا وجزعا نتفرج من بعيد على أولئك المدنيين الفرنسيين المدججين بعدتهم وعتادهم، وهم يضعون الشارات والعلامات على قمم الربى.. وعندما ينقضي النهار وينصرف أولئك الأغراب، نأتي إلى تلك الشارات والعلامات، فنعبث بها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.. 

 وتوالت الأيام، والشهور، والسنوات.. 

  ثم بدأ الحفر والتنقيب على أشدّه حيث كانت قد ثُبّتتْ تلك العلامات والشارات.. وجاءت سيارات وشاحنات محملة بمواد وآليات البناء.. وبدأ البناء والتشييد.. وانبثق هناك، من الجهة الشمالية، منجم غير بعيد.

  ثم شُقّت المسارب والطرقات.. وبنيت أيضا سكة حديد.. ومُدّت أعمدة الهاتف والكهرباء... واستقر الفرنسيون في مكاتبهم بالمنجم يعملون لا يكلّون كخلية نحل، فاجتمع البدو من حولهم بحميرهم وبغالهم ينشدون الشغل.. والتحقنا بهم، أنا وأبناء عمومتي، وقد اشتدّ عودنا، غير عابئين بمصير شويهاتنا.. فوقفنا في طوابير طويلة، يتفحص المسؤولون الفرنسيون صلابة عضلاتنا وخشونة أكفّنا بأعين ثاقبة.. معيار رفضنا أو قبولنا.. ثم بعدها غُصت، فرحاً مسروراً، مع الغائصين في أعماق الأرض.. نحفر ونستخرج ذلك التراب العجيب... "الفوسفاط". 

  ولسرعان ما اجتمع العمال المحليون بخيامهم، وأكواخهم، ودوابهم، وأسرهم على مشارف ذلك المنجم العتيد.. والتحق بهم آخرون من كل أقطاب البلاد.. فشيد الفرنسيون الإدارة، والمدرسة، والمسجد، والمستوصف، والحمام، والفران، وسقاية ماء، ومساحات خضراء بها أشجار وزهور وورود، فغردت بها عصافير وطيور.. كما بنواْ منازل صغيرة أنيقة من حجر وإسمنت تأوي العزاب من العمال بالعشرات.. وعلى الأطراف، نبتت أكواخ من قصدير كالفطر، وسكنها بؤساء معوزون، وبائعات هوى تعيسات.. وعاش الكل في وئام وسلام. أما في عمق الوادي، جهة الجنوب، فلقد تم تعيين بقعة أرضية للمقبرة. 

 هكذا، دبّت الحياة في تلكم الشعبة التي كانت يوما خلاءً مقفراً.. 

 وفي صبيحة ذات يوم مطير، غصنا في باطن الأرض، ثلاثة شبان وأنا رابعهم، مسلحين بمعاولنا، وبمصابيحنا التقليدية التي لا يكاد نورها الضئيل ينير لنا الطريق.. مشينا تارة نحني ظهورنا، وتارة أخرى نزحف على بطوننا، حتى إذا وصلنا إلى نهاية النفق طفقنا نثبت الأرض من فوق رؤوسنا بالركائز الخشبية، ونحفر التراب بمعاولنا من تحت أقدامنا.. برودة التراب والعرق المنهمر من جسمي يشعراني برطوبة لا تطاق.. ثم فجأة دوت طقطقة عنيفة صكّت أذنيّ، وصفير مكتوم مصحوب بريح قوية أطفأت أنوار المصابيح وملأت بالأتربة عينيّ.. لا أدري هل كنت أشدّ حدسا وأكثر خفة، أم أن أجلي إذ ذاك لم يحن بعد.. هرولت هارباً.. ومن خلفي، تناهى إلى سمعي صراخ استغاثة وعويل، ما فتئ أن انكثم كل شيء وعمّ سكون ثقيل.. 

   ظللت أركض في الظلام.. تارة أتعثر في التراب، فأسقط على ركبتيّ.. وتارة أخرى أصطدم بالجدران، حتى لاح لي ضوء ينبعث شاحبا من بعيد... من يومها أقسمت ألا أعود ثانية إلى العمل هناك.. فعدت أرعى شويهاتي جنب المقبرة أعدّ موتى المنجم.. وكم كانت عديدة هي موتى ذلك المنجم اللعين!

ومرت أيام، وشهور، وسنوات... 

ورحل الفرنسيون غير مأسوف عليهم، إلى غير رجعة..  

 وتسلم أبناء جلدتنا مقاليد شؤون البلاد والعباد.. 

 وبالضواحي الشرقية، تمركزت آليات حفر عملاقة تزحف على سطح الأرض تجرفها، فلا تبقي ولا تدر.. فهُجّر السكان وملّاكي تلك الأراضي والتحقوا بالقرية.. فتضاعف عدد سكانها، واتسعت رقعة أحياء الصفيح بها .. وهكذا صنفت القرية مدينة، وتغيّر اسمها.. أما في أقصى الشمال، فلقد حطّ الرحال معمل لتجفيف ومعالجة الفوسفاط من كل الشوائب، فظهرت مداخنه سامقة في السماء، متراصة كالمدافع..  فوهاتها تنفث الغبار ليل نهار.. يتعالى في الفضاء، ليتساقط أخيرا وبالاً على المدينة البئيسة والضواحي المنكوبة.. 

  زرت الطبيب يوما، وقد شعرت ببعض التعب والإنهاك، وبآلام في الصدر، وبصعوبة في التنفس.. أجرى التحاليل، والفحوصات الطبية اللازمة، ثمّ نظر إليّ نظرة الحفيد إلى جدّه، وسألني إن كنت قد اشتغلت يوما بالمنجم اللعين.. في عينيه قرأت: " إن كنتَ قد نجوت من الموت مطموراً تحت التراب، فإنك اليوم لن تفلت من الموت بمرض السيليكوز".. وجدتني أجيبه في خاطري: " ما همَّني- أنا العجوز الهرم- أن أموت بهذا المرض الخبيث.. فذاك كان مصير الكثيرين من الرجال الذين قبلوا العمل بالمنجم.. لكن ما يهمني الآن هو إلى متى ستظل مدينتي تختنق بذاك الغبار الفظيع؟".. 

نورالدين بنصالح زرفاوي

30 نونبر 2021

تعليقات

  1. صاحب العصافير تهاجر كي تموت،أو إرنست همنغواي المغرب كما أسميه،له من المهارات في فن الكتابة القصصية والرواية ما يجعله من الأقلام المغربية التي تدفع بصورة نمطية عن كتاب كبار في هذا الوطن ،رغمةغياب أضواء الإعلام التي يبقى لها رهان آخر في رحبة السوق والمواسيم والمعارض بين قوسين..ألف تحية للقلم الفسيسي الكبير

    ردحذف
    الردود
    1. شهادة أعتز بها أيها المبدع الجميل والصديق العزيز.. ألف ألف شكر

      حذف
  2. سلام من رب كريم
    تحياتي استاذي العزيز ان هذا الحكي المالح ليترك في الحلق غصة لا تطاق ووخز في القلب المكلوم على ما فعلته بنا محمية فوسفوسطان، وما الحقته من دمار شامل،
    مزيدا من العطاء والتالق

    ردحذف

إرسال تعليق

في رحاب عالم الأدب..

سي محمد خرميز أيقونة من أيقونات المدينة الفوسفاطية.. بقلم عبد الرحيم هريوى الدار البيضاء اليوم/المغرب

عزيزة مهبي؛ المرأة الفوسفاطية بخريبكة ، العاشقة لمهنة التعليم على السياقة، وسط الكثير من الرجال..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

ماذا أصابك يا إعلامي زمانه و يا جمال ويا عزيز الصوت واللحن..!! بقلم عبد الرحيم هريوى

العين التي أعطت ضربة الجزاء للفتح الرياضي بدون الرجوع للفار هي العين نفسها التي ألغتها بنفس القرار بعدما شوهد الفار- بقلم الكاتب الفوسفاطي /:عبد الرحيم هريوى

"السوليما" الإفريقية بخريبكة بين قوسين..!ومحمد درويش يقول على هذه الأرض ما يستحق الحياة..!! عبد الرحيم هريوى..!

كلمة عن بعد ؛ عبر العالم الافتراضي كمشاركة منا في حق تكريم أستاذ لغة الضاد الأخ مصطفى الإيمالي بالثانوية التأهيلية عبد الله بن ياسين بٱنزكان - عبد الرحيم هريوى

ياسين بونو توأم لبادو الزاكي حارس مايوركا في زمانه..!! بقلم عبد الرحيم هريوى