الليل ..! بقلم الكاتب المعانيد الشرقي ناجي
الليل
المعانيد الشرقي ناجي
يحمل الليل مفاجآت جمة وفيه تنطوي أسرار كثيرة ومتنوعة، في نفس الوقت كتوم لمآسينا وخبايا ما تحمله نفوسنا العطشى للبوح، هو خير من يجيد الإنصات إلينا في سكون تام.. يسكنه كل من عانى ويعاني مآسي الحياة وصروف الدهر، وبالمقابل، يركبه السهارى في الحانات والعلب الليلية وتلك قصص أخرى لا تنتهي..
لولا الليل الذي نسكن إليه بعد عمل يومي رتيب وجهد جهيد، لما ارتاحت النفوس وسكنت إلي بعضها بعضا، ولما ركبنا عوالم الجنون والإبداع، ولما تجاوزنا صخب النهار وضجيجه المدوي. فلما يسدل الليل خيوطه، يروح الإنسان إلى بيته وقد سكنه هوس البوح واشتاق إلى أنس النساء وحديثهن الذي يخفف وطأة الرتابة التي يعيشها كل فرد على اختلاف النشاط الذي يزاوله..
إن الليل يقترن بزمن خاص، زمن ينفلت من قبضة الوعي كما ينفلت الماء من بين أصابع اليد. الليل أيضا زمن مختلف يختلي فيه المبدعون مع ذواتهم ويسكنونها بمعنى من المعاني، وليس ذلك إلا لإخراج ما استقر في اللاشعور من مكنونات في شكل رغبات تم رفضها من قبل الواقع نظرا لتعارضها معه بكيفيات مختلفة، ووفق طبيعة الثقافة التي ينتمي إليها الفرد. فهذا فنان تشكيلي لازم مرسمه، وذاك شاعر وجد ذاته داخل القوافي وبحور الشعر، وهذا فيلسوف يزرع الرعب ويصفع هجعات الليل كما كان يحلو لنيتشه أن يقول. لذا، فكل يغني على شاكلته، ويعزف سيمفونيته بالطريقة التي يحقق معها التخارج؛ ( Exteriorisation )، وتعني هذه العملية عند أغلب الفلاسفة الوعي بالذات وبالعالم الخارجي.
هكذا، يطوي الليل النهار ويطوي النهار الليل وتتعاقب لحظات الزمن، ويبقى الزمن السيكولوجي خير لصيق بشخصياتنا وما تحمل من عصاب ورهاب وقلق إضطهادي ووسواس قهري، إلى أن يبلغ الإنسان مراتب متقدمة من العمر، ويقترب إلى العدم، ليفارق هذا الوجود بما حمل إليه من تجارب وتضحيات جِسام.. ولن يبرح كل منا مكانه حتى يلج عوالم أخرى لم تكن مبرمجة من ذي قبل.
وأخيرا، يبقى الليل وعتماته مأوى للباحثين عن السكون والإستقرار النفسي والبيولوجي، وهناك من يرى بأن الليل وقت القراءة والبحث الدؤوب عن تفاصيل المعرفة والكتابة بما هي حياة أخرى تنسينا المآسي وتغدي شغفنا الشديد بإخراج ما استقر في اللاشعور الزاخر بذكريات الطفولة..
تعليقات
إرسال تعليق