لكأني به يعيش حقا في دوامة.. يوميا يذهب إلى العمل وقت الظهيرة، ولا يعود منه إلا بعد منتصف الليل.. وفي الغد، نادرا ما يستيقظ قبل منتصف النهار.. يكتفي بوجبة دسمة يتبعها شايا "منعنعا" ساخنا .. يرتدي بذلة العمل، ويعدُّ عدّته المعهودة: مصباح تقليدي، وخوذة الرأس، وواقية الساقين.. ثم يغادر البيت من جديد، ليغوص في ظلمات باطن الأرض بالمنجم.. ذاك ديدنه طيلة أيام الأسبوع عدا أيام الأحد، فإنه لا يستفيق من "نومته الكهفية" إلا بعد أن ينادي المؤذن لصلاة الظهر..
اليوم، استيقظ- على غير العادة- باكرا.. جفناه منتفخان من سوء النوم وقلته.. وملامح التعب والانهاك تبدو جلية على سحنته القمحية.. رثيت لحاله كثيرا.. بسببي حرم قسطا من راحة هو في أمسّ الحاجة إليها.. توضأ، وأسبغ الوضوء.. ثم أدى صلاة الفجر بصوت مبحوح مشوب بالنعاس.. قرأ سورة الفاتحة، ثم أتبعها بالمعوذتين.. وفي الأخير رفع أكفه بالدعاء سرّاً.. بعد ذلك مباشرة انبرى، في نشاط وحماس، يتفقد أحوال دراجته النارية استعدادا لرحلة غير معتادة.. سفر طويل وشاق محفوف بشتى أنواع المفاجئات.. فالجو ينذر بحرارة صيفية مفرطة، واحتمالات الأعطاب بالدراجة التي بلغت من الكبر عتيّا واردة.. بل تكاد تكون شبه مؤكدة.. منذُ بدأت أعي ما حولي وهي في ملكية والدي.. وسيلة نقله الوحيدة إلى المنجم التي لا غنى له عنها.. ويوم السوق الأسبوعي، فهي راحلتنا الصبورة..
تفقد مضخة الهواء، وما خفّ من عتاد قليل اعتاد استعماله خلال أعطابها المتكررة.. فحص ضغط الهواء في العجلات، وهو يضغط عليها بكفه المتينة.. فتح قفَّال خزان الوقود، وألقى بداخله نظرة متمعّنة.. لم يكتف بذلك، بل هزَّ الدراجة يمنة ويسرة بقوة حتى يتبيّن مستوى البنزين فيه، ففاحت رائحة السائل اللاذعة.. تفقد أيضا خوذة رأسه السوداء، فتبثها جيدا على مقود الدراجة.. شغل المحرك لبرهة، ثم أشعل الأضواء وألقى نظرة متفحصة على الخلفية منها والأمامية.. فالعودة إلى البيت قد تمتدّ حتى ساعات متأخرة من الليل.. كلبنا "شوشو" رفيق والدي في جولات القنص النادرة، وصديقي الوفيّ خلال سويعات الفراغ ما بعد الدراسة عشياً، كان- على غير عادته- مادّاً ذراعيه بالوصيد في مرقده، غير عابئ بما يجري حوله، وكأنه بذلك يعبّر عن حزنه العميق لفراقي الوشيك.. أما أمي، فلقد كانت تجمع لي أغراضي – على قلتها - في حرص شديد حتى لا تنسى شيئا.. كانت حزينة مكتئبة.. وعندما حان وقت الرحيل، ضمتني إلى صدرها في عناق حار وطويل، وعيناها تفيضان من الدمع حزناً، وكأنها تودعني وداعا لا لقاء بعده.. ظلت توصيني، وتعيد علي نفس الوصايا:
" كن فتى طيبا"..
" لا تختلق المشاكل مع أحد "..
" إياك ورفاق السوء "..
" إياك والتدخين "..
" اهتم بدراستك "..
اهتم بدراستك!.. كانت تلك آخر وصية أسمعها منها قبل أن ينطلق زعيق الدراجة يعكّر صفو ذلك الهدوء الرائع، فيلوث دخانُها نسيم الصباح العليل..
إلى ظهري، أحمل أغراضي وكتبي.. قفزت فوق الدراجة خلف والدي في خفة الجديان.. ثم انطلقنا نشق طريقنا في مسرب مترب يلتوي وسط الحقول الجرداء، وجنان الصبار التي تحيط البيوت حدّ الاختناق.. "شوشو" انتفض أخيرا من مرقده يجري خلفنا لاهثا حتى إذا لم يعد بإمكانه مجاراة سرعة الدراجة، توقف وظل يشيعنا إلى أن توارى عن ناظري.. في الطريق، مررنا بمدرستي حيث قضيت من طفولتي خمس سنين.. أبوابها لا تزال مؤصدة، والعلم الوطني في سمائها يرفرف خفاقاً.. "العلم نور، والجهل عار".. تلك حكمة كتبت بأحرف بارزة على واجهة سورها، فنقشت بأحرف من ذهب في ذاكرتي الفتية.. تساءلت مع نفسي: " ترى، كيف ستكون مدرستي الإعدادية المقبلة؟ "..
وعندما وصلنا إلى مركز القرية، أبى والدي إلا أن يضيف كمية أخرى من البنزين من بقالة تعرض زجاجات الوقود جنبا إلى جنب مع قنّينات تحوي زيت الزيتون.. ألقى نظرة ثانية على العجلات.. وضع خوذته على رأسه أخيرا، وأحكم شدّها حول أسفل ذقنه.. ثم أخذنا في الطريق المعبد، وقد ازدادت سرعة الدراجة أكثر من ذي قبل.. كما ارتفع زعيقها، وتعالى الدخان المنبعث من خلفها.. كنت أستمتع بالهواء، وهو يعبث بخصلات شعري المسترسل..
ظلت الدراجة تتسلق بنا ذلك الجدار التلي المنيع، الذي يحيط القرية من جهة الغرب وقد اشتدّ زعيقها وانخفضت سرعتها.. من وراء ظهورنا، الشمس ترسل أشعتها المتوهجة.. التفتُّ خلفي أشيع بلدتي.. "المفاسيس" محبوبتي.. تضاريسها تكاد تكون منبسطة تماما، تحيطها شرقا وجنوبا سلسلة من أتربة متراكمة وقد عبثت بأراضيها جرافات ضخمة رهيبة.. حاولت جاهدا أن أتبين بيتنا في ذلك المجال المحاصر بين جدارين.. لكن عبثا، فالبيوت كلها تكاد تتشابه: واطئة، متواضعة، كئيبة، مغبرّة لا لون لها ما عدا خضرة جنان شجرة الصبّار المحيطة بها، وقد أضفت عليها منظر برك مائية آسنة متفرقة هنا وهناك..
الدراجة تئن أنينا حتى لتكاد تتوقف مستسلمة أمام ارتفاع ذلك الجدار التلي.. وعندما صرنا إلى أعلاه، واستوى أمامنا الطريق ممتدا إلى ما لا نهاية.. وأخذت الدراجة تستعيد عنفوانها وسرعتها، صاح والدي فجأة متأففا:
" أف!.. اللعنة!.. يا للشيطان!"..
قفزت خلفه مذعورا.. ومن فوق كتفه ألقيت نظرة على الطريق أمامنا.. سيارة "جيب" رمادية اللون، ودركيين يقفان هناك بزيِّهم المهيب.. شرع يقرأ المعوذتين بصوت مسموع.. حينها فقط، أيقنت أن والدي- رغم حرصه الشديد على ألّا يفوته شيء من احتياطات السفر، فيعيش ذلك اليوم خارج دوامته - قد نسي أن يصحب معه الأوراق الخاصة بدراجتنا العجيبة.. تحرك أحد الدركيين أخيرا، وانتصب وسط الطريق بقامته الفارعة يستعد ليشير لنا بالتوقف جانبا.
نورالدين بنصالح زرفاوي/ المغرب
تعليقات
إرسال تعليق